سوداني نت:
قضيت ثلاثًا وعشرين سنة في الإعلام البريطاني، لم أشهد ولا مرة واحدة مجموعة من المدنيين البريطانيين وقد تداعوا لمناقشة أمور قوات بلادهم المسلحة، ولم أشهد جلسة من جلسات البرلمان البريطاني عقدها لمناقشة ميزانية القوات المسلحة أو التطرق إلى كيفية تشكيلها، أو لمناقشة أمر مؤسساتها الصناعية وكيفية تكوينها، أو لأي أمر كان من أمورها.
ولم أشهد في المؤتمرات السنوية للأحزاب البريطانية حزبا تطرق للحديث عن الشؤون العسكرية لبلاده أمام المؤتمرين، وكذلك لم أر الصحف البريطانية تتناول أمور القوات المسلحة لبلادها، لا في أخبارها ولا في أعمدة الرأي فيها.
وكلها أمور من اختصاص العسكريين أنفسهم فقط اللهم إلا ما كان مثلا يخص إرسال الحكومة دعما عسكريا إلى هذه الجهة أو تلك، أو توقيعها اتفاقًا دفاعيا مع تلك الجهة أو هذه، فقد تُتناول هذه الأمور من وجهة النظر السياسية في الاخبار والتعليق عليها.
أما في بلادنا العجيبة هذه، فكل مدني من (يساري بعد الثورة) يمكنه أن يمضمض فمه بالسوء والإساءة لقوات بلاده المسلحة، والحط من قدرها أنى شاء وهذا شيء لم يكن موجودا قبل (ثورة ديسمبر المجيدة) التي سمح بعدها قادة الجيش، الذي لولاه لما حدثت الثورة أصلاً، بالتطاول على مؤسسته وإهانتها، واحتقار ضباطه أمام الناس كتفتيش بعض الصبية لهم حتى يسمحوا لهم بالعبور إلى مقر عملهم أيام الثورة الأولى.
ولقد بلغ السفه آنذاك بأولئك الناس حدَ وصفِ جيش البلاد بأنه جيش احتلال، ووصفِ أفراده بأولاد الحرام وسارت العامة بسوء ذكره في الشارع، وهم يردون ما نُظم لهم من موزون القول، حتى يستقر في وجدانهم، وتُذللَ به ألسنتُهم، ليسهل تكراره في مظاهراتهم مثل شعارهم المعروف: (معليش معليش ما عندنا جيش).
وأسوأ منه ترديدهم:(أولاد الكلب كمان، ناس دقلوا وناس برهان، أنحنا أولاد الشعبْ، جيناكَ يا ابنِ الكلب).
ومضوا في مثل هذه الهتافات حتى وصلوا بها إلى (سب دين العَسكر) الذي هو دينُ الإسلام، وربما لم يكن يدين به من كانوا يحترشونهم بالاجتراء على المؤسسة العسكرية وأفرادها. وكل ذلك من المؤسف كان يمر على أسماع قادة الجيش وهم عاجزون على التصدي له.
واحلف صادقا بأن ذلك لا يحدث في أي بلد في العالم غير بلدنا العجيب هذا في كل شيء ثم من هو أبنُ الكلب الذي عَنوه بإفراد اللفظ؟ فإما أنه فردٌ بعينه في الجيشُ، وإما أنه الجيش كله، وأن لفظ الإفراد قد يدل على أنهم يعنون الجيش.
وهم الآن بإعلانهمُ السياسي الذي جاء كله مع قاعدته الاطارية صناعة غربية، يرون أنه آن الأوان تطبيقه بالشروع في وسائل تفكيك الجيش، لتحقيق الحلم الأمريكي القديم.
وبالنسبة إلى تطور الاحداث وتسارعها، فقد بات أمر تفكيكه يتوقف فقط على توقيع الفريق البرهان على الإعلان السياسي، ما لم يربطِ اللهُ على قلبه فيرى ببصيرته أن في توقيعه على ذلك الاعلان النجس مهلكة للبلد عامة.
إن أولئك المدنيين الذين كانوا بالأمس في السلطة، وتطربهم تلك الهتافات المسيئة جيش بلادهم، يجلسون الآن مستمعين مهطعي رؤوسهم أذلاء أمام فوكلر الذي جيء به حاكما عاما للسودان، وهو يملي عليهم ما يريد منهم فعله، مقابل أن يعيدهم كالأمس حكاما على البلاد.
وعلى أيديهم يفكك جيشها، ليعيدها أحدث مستعمرة في راهن العصر، سواءٌ جاءت مستعمرة موحدة أو ذات أقاليم لا آصرة تجمع بينها.
وفي سبيل ذلك يطمع فولكر في مزيد من أذلال الشعب السوداني، بأن يجعل قادته يفككون جيشهم بأيديهم، إرواء لغليل الغرب الصهيوني المسيحي، بانتقامه من هذا الجيش الذي منع بقوته من اجتياح ربيبهم قرنق للخرطوم ليقيم دولة السودان الحديث. والآن يعمل الخالفون له، على ترتيب صفوفهم ليعودوا إلى سدة الحكم، لإسقاط الهوية الإسلامية العربية في السودان، كما صرح بذلك عرمان لتلك القناة التلفزيونية.
أما رفيقه جعفر حسن مشعل نار الفتنة والكراهية بين الناس، فقد أنذر بتحديد تاريخ ستكون لهم فيه حكومة، وبعد ذلك لن يُسمح لخصومهم حتى المرور في الطرقات حسب قوله.
وما ستطبقه تلك الحكومة الموعودة بات يُتداول في أيدي الناس الان، في ومنها السيطرة على النيابة والقضاء في جميع درجات التقاضي، لاسيما الاستئناف والمحكمة العلياـ بإقالة مئات منهم، وبالذات إقالة قضاة المحكمة العاليا، وإعادة لجنة التمكين بصورة أكثر استبدادا ليشمل عملها ضرب كل القوى الوطنية تحت توصيف ( المعوقين للتحول الديمقراطي) وإقالة مئات الضباط من الجيش، وإلغاء جميع قرارات المحاكم السابقة التي تمت بموجبها تبرئة رموز إسلامية، وإعادة فصل جميع الموظفين الذين تمت إعادتهم.