سوداني نت:
طوال سبعون عاماً لم تلد الدولة السودانية إقتصادي ذو شأن ولكن كانت على الدوام حريصة على ولادة الديكتاتوريين والأخطر عليها هم الديكتاتوريين المدنيين الذين يظهرون في أعقاب الثورات، حيث التاريخ القريب يقول لنا أن الثورات السودانية ليست ذات تاريخ مشرق في هذه الناحية فتحولت فترات مابعد سقوط الأنظمة العسكرية إلى محض ديكتاتوريات مدنية بغيضة تتدثر عباءة الثورة المستباحة من جميع الأطراف يواصلون إقعاد الدولة والمجتمع وعجزوا عن القيام بإجراء التحولات العميقة بل هم ذاهبون لكي يكونوا رزية من رزايا الأزمة المزمنة.
ليس هناك مجال للشك إن الملف الإقتصادي لثورة ديسمبر أصبح الآن في قبضة صندوق النقد الدولي وبرعاية محلية من نخب( المركز والهامش )لأول مرة في التاريخ السياسي وهو مشهد يلخص طريقة عمل العقل السياسي السوداني الذي كان يخوض صراعات دونكشوتية لتكون نهايته الوقوف ضد الدولة والمجتمع.
رهان الثورة باء بالفشل حين أدركت الثورة أن حمدوك ومن ورائه قحت ليس لديهما (رؤية إقتصادية ) لسودان مابعد الثورة، وأسفر ذلك عن خسارة رهان آخر جرى التعاقد عليه على عجل وفي نهاية المطاف تحقق اتفاق جوبا الذي وضع الملف الإقتصادي ضمن كارتيل سلطتهم بعد أن تم إستكمال رسم السياسات الإقتصادية وفق منظور صفقة واشنطن وتعاليم صندوق النقد الدولي ليجدوها معدة وجاهزة (ماكان لهم علم بكنهها).
بعد تنفيذ موجة كبيرة من موجات رفع الدعم عن السلع الأساسية للمواطن، ظهرت الآن الموجة الثانية الأشد خطرا (التعويم) بناء على هذه التطورات حان الآن وقت الصندوق لكي يكون دور (الملاذ الأخير) للتزود بالسيولة بعد أن قدم الصندوق للحكومة (العصا) والتي تتمثل في( حزمة )من الإجراءات القاسية العنيفة يقول إنها ستساعدنا في انقاذنا من الديون العالمية عبر اعفائها لاحقاً، وأيضاً ستفتح الباب لمزيد من القروض، وهذان أمران تكذبهما الحقائق على الأرض فليس هناك دولة تم اعفائها من الديون منذ تأسيس صندوق النقد الدولي في 1945، ضمن هذه الصفقة التي درج عليها خبراء الصندوق في كل دولة يدخلونها يتم فرض اجراءات إقتصادية تكون نهاياتها مأساوية على إقتصاد الدولة وشعبها.
ومن المفارقات العظيمة أن هذه السياسات والإجراءات التي يفرضها على الدول لاتطبق إلا في ظل الديكتاتوريات الشرسة لأن آثارها كارثية ونهاياتها تكون إشعال الإضطرابات الإجتماعية الواسعة ودخول مكونات الدولة في مراحل عنف دموية تقود في النهاية إلى تحلل الدول وسلطاتها السياسية بعد أن تكون قد رمت ب 90%من الشعب في براثن الفقر المدقع.
فمن المعروف لتطبيق هذه السياسات قامت الولايات المتحدة الأمريكية بمساندة ديكتاتور شيلي بينوشيه بدعم انقلابه الشهير على السلطة المنتخبة وبدعم كامل من وكالة المخابرات الأمريكية. .وكان هناك اتفاق على إثر ذلك أن يقوم بينوشيه بتطبيق كامل روشتة صندوق النقد الدولي من تخفيض لعملة بلده الوطنية (التعويم) وبيع مشاريع الدولة التاريخية للقطاع الخاص، وإجراء تخفيضات كبيرة على الإنفاق على السلع الإستراتيجية من ضمنها إلقاء الأعباء على المواطنين في قطاعات الصحة والتعليم وتقديم الخدمات. . لكن نسبة لأن تطبيق هذه السياسات كان كان غرضه الأساسي هو السيطرة على مقدرات الإقتصاد لصالح فئة قليلة وشركات كبرى خارجية فإن إرتفاع نسب التضخم بمعدلات فاقت الخيال في الإقتصاد الشيلي والذي أنتجته سياسات الصندوق الكارثية كانت قد أودت بالشعب الشيلي إلى المحرقة مباشرة بسرعة الصاروخ. . وهنا درس مهم ينبغي لخبراء اقتصادنا تعلمه وهو أن سياسات الصندوق موجهة نحو هدفين فقط منذ إنشاء الصندوق هذا (الغول) المتوحش هما :
📍تسديد ديونه وديون الدول الأعضاء فقط ولو أدى ذلك إلى دخول الشعب بكامله إلى المحرقة.
📍يكون الطريق لتسديد هذه الديون عبر تخفيض (الإنفاق الحكومي) حتى لو أدى ذلك لتجويع شعب كامل ووضعه في فوهة بركان الفقر، وحتى لو استعصمت أسعار الدواء بالسماء ولم يجد مواطن الدولة ثمن حقنة.
بعد أن إلتهم (التضخم الجامح) معيشة سكان شيلي حيث بلغ معدلات قياسية وصلت 341%.. وعجز ديكتاتور شيلي بينوشيه عن إيقاف هذا الوحش المصنوع من قبل الصندوق ووكلائه المحليين ..زادت الديون الخارجية مقومة بالدولار إلى (أربعة) أضعاف وعند نهاية برنامج صندوق النقد الدولي المطبق في شيلي كان 10%من سكان شيلي يسيطرون على 75% من الدخل القومي للاقتصاد الشيلي.
هنالك شروط كارثية يفرضها الصندوق على أي دولة تريد قروض أهمها :
📍القيام بتخفيض حاد للعملة المحلية مقابل الدولار.
📍تخفيض التمويل المالي من النظام المصرفي الوطني للمشاريع الوطنية.
📍 فتح الإقتصاد على مصراعيه للواردات وحرية المتاجرة بالعملات الأجنبية في الأسواق الوطنية.
📍إلغاء القيود الوطنية المفروضة على الإستثمارات الأجنبية.
📍خصخصة مشاريع الدولة وبيعها للأفراد والقطاع الخاص المحلي والاجنبي.
كل واحدة من الإجراءات هذه تعتبر للشعب بمثابة تدهور شديد في أوضاعه المعيشية فيتحول الناس من الطبقة الأعلى إلى الطبقة الوسطى ومن يجلس في الطبقة الوسطى يتحول إلى الطبقة الفقيرة اما الطبقة الفقيرة فليس لها من مناص إلا أن تموت واقفة، بالرغم من أن الشعب يشكو لطوب الأرض في قطاعي الصحة والتعليم وقطاع الخدمات نجد أن سياسات الصندوق تفرض على الحكومة والتي هي نفسها تفرض على الشعب مزيد من الرسوم والاعباء المالية التي تمررها فوق ظهر الشعب وذلك من أجل أن ينظر إليها الصندوق بعين الرضا وبذلك تكون الحكومة ووكلائها قد تركوا الشعب أمام قدره المحتوم عاريا في سبيل أن تحصل الحكومة على قرض لايكاد يغطي عورة عقلها الإقتصادي،ناهيك عن أن هذا القرض يمثل مزيد من الديون التي يتوجب على الأجيال دفعها في المستقبل،بالرغم من ذلك يرددون فرية اعفائهم من الديون وفق تعاليم آيات الكتاب المقدس (إجماع واشنطن ) وحاخاماته من الخبراء.
يؤدي شرط تخفيض العملة الوطنية والذي يسمى تلاعبا (التعويم) المفروض من الصندوق إلى تدهور وتآكل قيمة العملة الوطنيه (الجنيه) وهذا ينعكس على إضعاف قوتها الشرائية لدى المواطنين وينبغي الآن للمواطن أن يدفع الثمن مضاعف ثلاثة مرات وأربعة مرات للحصول على سلعة واحدة.
كما أن الشروط الكارثية المتمثلة في عدم تمويل الإنفاق على المشاريع الوطنية التي تهم المواطن وتجعله يعيش حياة الكفاف والاستمرار في تحمل أعباء الحياة من خلال تقليص الدعم إلى أقل مستوى بالأخص المشاريع الزراعية والمشاريع الحرفية الصغيرة أي المشاريع التي يتوقف وجودها على حصولها على قروض ميسرة، وبالتالي توقفها واغلاقها وتسريح عمالها وهذا يؤدي إلى تفاقم مشكلة البطالة التي تجاوزت اليوم 40%. .هذا غير أن ذلك يقود إلى تقليل نسبة الإنتاج لمستويات كارثية وصلت الآن (_8).
إن فتح البلاد للواردات الأجنبية بلا قيد أو شرط هو من الاشتراطات التي يجب تطبيقها وفق وصفة صندوق النقد الدولي إذا أرادت الدولة قروض أو إعفاء لديونها وبذلك تحصل مرحلة إغراق الإقتصاد المحلي بسلع تعمل على تدمير ماتبقى من صناعة وطنية هي في الأساس ضعيفة جداً ويتأثر القطاع الزراعي بهذه السياسات الكارثية بشكل فظيع على وجه الخصوص ولكن يكون في مقدورهم منافسة الشركات الإقليمية والدولية والنتيجة الكلية لهذه السياسات ستكون الإفلاس الكامل للدولة ولشعبها وسنكون مستوردين بالكامل لغذائنا بدلا عن أن نكون مصدرين وهو مايظهر حالياً في السودان وسينتج عنه نزيف حاد في الحصول على العملات الصعبة لانعدام الصادر في الإقتصاد والاستحواذ عليه من الشركات الأجنبية وهو أيضا مايظهر اليوم وسيتعمق بمرور الزمن خاصة بعد أن بدأ تطبيق سياسات صندوق النقد الدولي. .ضرب قطاع الصادر في الإقتصاد السوداني هي مهمة صندوق النقد الدولي في السودان وبالتالي جعل إقتصاد الدولة في حالة عجز دائم عن تكوين إحتياطي دولاري معتبر يستطيع من خلاله النهوض بإقتصاد السودان ودولته وشعبه. ….
ونواصل. ……