سوداني نت:
لا أدري أهو الإعتياد على التسفار، أم إنه طبعٌ بي عندما أجد نفسي أحب ساعات الإنتظار في المطارات long layovers.
في الذاكرة صورٌ للعديد مطارات العالم، مطارات تحتشد بالناس على مختلف جنسياتهم وأشكالهم وألوانهم.
وأخال أن حبي للانتظار في المطارات مرده لهوايتين:
1-القراءة؛ إذ أعتدت حمل عدد من الكتب لقراءتها خلال الرحلة على متن الطائرة، أو أثناء فترة الانتظار في صالات المطارات
Travel halls /lounges
2-حب التعرف على أصول الناس وسمتهم وجنسياتهم من خلال أشكالهم وتقطيع وجوههم ونبرات الصوت وبعض الكلمات التي أسمعها أثناء تحادثهم.
وكم أجد نفسي مدينا لأسفاري عندما أمايز بين عدد الكتب التي قرأتها خلالها وكذلك لعمق استيعابي لمحتوياتها.
أما (ولعي) بالتعرف على سمت الآخرين؛ فمرده قراءات في علم النفس، وبعض المصنفات التي تتحدث عن (رؤى) في خفايا النفس البشرية…
ولقد خلصت إلى (قناعة) بنظرية/رؤية تتحدث عن مشاركة الإنسان – في الكثير من سماته وطبائعه – للحيوان الذي يشبهه في شكله العام!
والأمر بأطلاق وتعميم، إنما مؤطر ببعض الشروط والتفاصيل.
وهي قناعات عضّدتها تجارب شخصية، أعتدت التعويل كثيرا عندما أضطر إلى تعامل (لحظي) مع شخص، يتعذر الوقت الكافي لسبر غور شخصيته، علما بأن جل أسفاري خاصة بوظيفتي، ولقاءاتي دوما تكون بمسئولين في شركات ومصانع متفرقة في ارجاء العالم، وأصدقكم القول بأن نسبة الإيجاب والصحة في تطابق السمات الحقيقية للشخصية مع الصورة الأولية التي أرسمها لها تكاد تفوق ال90%!
فالذي يشبه الثعلب (مثلا) في شكله العام، أو في تقاطيع وجهه، تجده يتصف بالمكر والدها؛ رجلا كان أو امرأة!.
والذي يشبه الكلب في شكله العام، أو في تقاطيع وجهه، أو في شكل المشية؛ تجده يتصف بالأنانية وحب الذات، رجلا كان أو امرأة!.
وأحسب أن الأمر -على اجماله- يرتبط بفطرية الطبائع والسموات، إلاّ أذا سعى الانسان إلى ترقية موجبة لوجدانه أو طبائعه وسماته العامة من خلال الأقتداء بأمثلة أو إعتمار منهج أو فكر يرقى به.
وسأشرع في تحبير العديد تفاصيل لقاءاتي بالناس في ثنايا أسفاري مايرتهن بعنوان المقال:
(1)
ركبت البص من صالة الوصول في مطار هيثرو Terminal 2,وانحشرنا في طائرة الإير لنقس الآيرلندية الصغيرة Aer lingus، في رحلة لم تستغرق سوى أقل من ساعة لتحط بنا في مطار دبلن.
المطار صغير (وهو المطار القديم)، وفيه شبه كبير بمطارات دول أوربا الشرقية، وقد لفت نظري كم اللوحات الجدارية لإعلانات المنتجات الوطنية الآيرلندية والعالمية أينما وجهت بصرك.
وجاء دوري في صف الجوازات الطويل، فمددت يدي بجواز السفر إلى الموظف الستين الجالس في ال(كاونتر)، فنظر اليّ مبتسما، ومن قبل أن يتصفح الجواز قال لي:
Sudaneses? That means you are physician.
رددت عليه بالنفي، ونقلت استغرابي هذا الى صديق يعمل طبيبا في مدينة دبلن، فأعلمني بأن الآيرلنديين أعتادوا على سحنات الطلبة السودانيين (الأطباء) القادمين للتحضير في الكلية الملكية الآيرلندية!…
قضيت عطلة نهاية الأسبوع في دبلن، وقررت أن يكون سفري إلى مدينة (ليمرك) المجاورة لوجهتي وهي مدينة (شانون)؛ عن طريق القطار، وذلك بغية الاستمتاع بخضرة آيرلندا التي سار بحسنها الركبان.
تحركت إلى محطة القطارات قبيل الظهر، وأُعلمت بأن موعد القطار سيحين بعد أربع ساعات، ابتعت تذكرة وجلست أرتشف عبوة من عصير الليمون وفي البال العودة إلى بعض فقرات كتاب إرنست همنقواي الجميل (الحرب والحب).
استغرقت في القراءة فإذا بقادم – بدا لي بأنه سودانى- جلس بإزائي على المقعد المقابل، والمقاعد مصفوفة على شكل مستطيلات، فابتسم وحياني بالعربية:
– سلام يابن العم، شكلك سوداني؟
– عليكم السلام ورحمة الله، أيوة، مرحب بيك.
أنا برضو سوداني زيك.
– مرحب بيك.
-شكلك مامن ناس البلد دي، وجاي في شغل؟
-نعم.
بصدق، لم أرتح لشكل الرجل، كان في الأربعينات، ولم أرغب في داخلي رغبة لمتابعة الحديث معه، فعمدت إلى هوايتي المفضلة بمطابقة صورة الرجل مع أقرب الحيوانات إليه، فوجدته أشبه بالضبع!
وشرعت أراجع في خاطري صفات الضبع، فتذكرت الآتي:
(الضبع يتصف بالخسة والغدر وحب الذات)! …
كان الرجل يرتدي نضارة شمس سوداء.
وبعد مضي ربع ساعة جلست بجانبي فتاة آيرلندية، بالرغم من وجود عدد من المقاعد الشاغرة يميني ويساري، وحيتني بابتسامة فرردت لها التحية بابتسامة، وما إن استقرت على المقعد؛ وجدتها تحاول جاهدة التأكد من عنوان الكتاب الذي اقرأه، (وهو مكتوب بالأنجليزية والعربية معا)، فما كان مني الاّ أن أفردت لها الغلاف – من بعد طي- لتتمكن من قراءته،
فأبتسمت مرة أخرى وقالت:
-هاي
-هاي
-لقد أنهيت قراءة هذا الكتاب في أجازتي المنصرمة، وهو حقا من أجمل الكتب التي قرأتها لهمينقواي.
-أنا أيضا قرأته من قبل، لكن لشدة إعجابي بمحتواه أعيد قراءة بعض المقاطع فيه.
-من أي دولة أنت؟
-أنا من السودان.
-أين يقع السودان؟
-هو في أفريقيا، إلى الجنوب من مصر.
بصدق (كم تألمت عندما وجدت نفسي مضطرا إلى التعريف ببلدي عن طريق مصر).
-أظن هذه لغة عربية؟
-نعم، الكتاب مترجم الى اللغة العربية، وناولتها أياه.
-أوووو، كم يعجبني الخط العربي والنقوش العربية!
كان يبدو على السوداني الذي جلس إزائي الأرتباك بعض الشئ وهو يكثر من النظر إلى ساعته، في دلالة واضحة بأنه ينتظر شخصا ما…
وقف الرجل فجأة، ونظر إليّ وهو يهم يحمل حقيبته الجلدية (الفاخرة) المتوسطة الحجم وقال:
– لو سمحت يابن العم بس خلي بالك لي شنطتي دي، أنا واصل الحمام وجاي.
الحق أقول أحسست بإحساس غريب بعدم الراحة والأمان، وقلت له رافعا كفى:
– مافي مشكلة، بس خلي الشنطة في محلها وأنا براقبها ليك من بعيد.
-ياخي نحنا سودانيين زي بعض؟ .
-نعم يا أخوي، وأنا ماقلت ليك حاجة غلط، لكن أرجوك خلي الشنطة في محلها ومافي أي مشكلة، حأخلي ليك بالي منها لغاية ماترجع…
ترك الرجل الحقيبة حيث هي وذهب…
وإذا بالآيرلندية تقول لي:
-هل تعرف الرجل؟
-لا لا أعرفه، هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها…
ومضت قرابة الساعة ولم يعد السوداني!
فرأت (Edel) الطالبة في السنة النهائية للفلسفة في جامعة ليمرك- كما عرفتني بنفسها – امارات الضيق في وجهي، فقالت لي بمودة:
-هل تود أن نبتعد قليلا عن الحقيبة؟
-لا بأس.
فذهبنا سويا إلى المقصف وجلسنا نرقب الحقيبة من هناك…
وفجأة،
إذا بي برجلين تبدو عليهما الملامح الأفريقية، أحدهما يتحدث من خلال هاتفه، وفي يد الآخر حقيبة (مطابقة تماما لذات الحقيبة التي تركها السوداني)، اتجها إلى حيث ترك السوداني الحقيبة، وجلسا على ذات المقعد الذي كان يجلس عليه.
وبعد دقائق نهض الأفريقيان وخرجا من المدخل الرئيس وبيد أحدهما الحقيقة السوداء، وإذا بالسوداني يعود مسرعا ليأخذ حقيبته ليهم بالخروج…
فالتفتُّ إلى Edel فوجدتها تتحدث من هاتفها، وخلال ثواني دخل – من مدخل جانبي- ثلاث من رجال الشرطة فانقضّوا على السوداني وأوثقوه!
ألجمتني المفاجأة، فأخرجت منديلا لاجفف به عرقي بالرغم من برودة الجو، وعدت إلى مقعدي.
…
عندما التقيت خلال عودتي بصديقي الطبيب السوداني بعيد عودتي إلى دبلن قال لي واثقا بأن Edel هذه ليست طالبة جامعية، بل هي تعمل في شرطة مكافحة المخدرات، وقد كانت مكلفة بمتابعة السوداني صاحب الشنطة!!
هذه الحادثة ابتدرت بها مقالي لأخلص إلى الاتي:
لقد خلق الله الحيوانات وقدر لكل منها سمات ظلت مميزة لها منذ الأزل،
والله تبارك في علاه لايخلق كائنا أو يمنح صفة عبثا…
وقد تناول العديد من فلاسفة المسلمين صفات الحيوان من مدخل التفكر في الخلق، وأبانو بأن هناك رابطا قويا بين صفات الحيوان وسمات الآدميين
(بدون زعل) 🙂
ومهما رُوّض الحيوان فأنه لاينفك عن السمات التي جبله الله عليها، لكون هذه السمات جينية وجِبِلّة، وقد ذهب بعض الفلاسفة المسلمين إلى القول بوجود (صلة) بين البشر والحيوان بالرغم من تميز الإنسان وخلقه في أحسن تقويم!، فربطوا بين صورة وشكل الآدمي والحيوان!
وبالطبع نرى في العديد منا شبها ببعض الحيوانات، ان كان في البنية العامة، أو التقاطيع الخارجية، أو حتي في طريقة المشي، واختلاف الأنسان عن الحيوان كامن في تمييزه بمنحة العقل ويقال أيضا بأن الكتابة والقراءة تعد سمة وهبة مميزة لبنى آدم، وبني آدم يمكنه الإرتقاء والسمو بنفسه ليصل إلى مصاف الملائكة، ولكن – أيضا- بيده أن يصبح كالأنعام أو أضل سبيلا!…
النفس الكلبيّة:
لعلي كنتُ من أكثر الناس حبا للكلاب في صغري، وبالطبع يجمع أهل الغرب، وكثير من أهل الشرق على كون الكلب أنبل حيوان على الأرض وفاء وحبا لصاحبه، ولاغرو لدينا العديد من قصص الوفاء للكلاب في محيطنا الصغير، لكنني عندما كبرت وقرأت عن بغض النبي صلى الله عليه وسلم للكلاب؛ ماكان مني الاّ أن نأيت بنفسي عن حبها، وعندما قُدّر لي معرفة صفات الكلاب وجدتها من أخس الطباع!
يقول ابن سيرين في طبائع النفوس:
الكلب لو صادف جيفة تشبع ألف كلب لوقع عليها، ومنع عنها سائر الكلاب، فلا تقربها الكلاب إلا على كره منه وغلبة، ولايسمح لغيره بشئ منها، همه شبع بطنه من أي طعام أتفق: ميتة أوغير ذلك، خبيث أو طيب، ولايستحي من قبيح، ان تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، ان أطعمته بصبص بذيله ودار حولك، وان منعته نبح في وجهك وبعد عنك.
وورد في صحيح مسلم بأن سفيان بن عيينة قال لما سمع قول الله عز وجل في الآية 38 من سورة الأنعام: {…وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ}.
ما في الأرض آدمي إلا وفيه شبه من البهائم…
فمنهم من ينتصر انتصار الأسد…
ومنهم من يعدو عدوَ الذئب…
ومنهم من ينبح نباح الكلاب…
ومنهم من يتقوس كفعل الطاوس.
قال الخطابي رحمه الله معلقاً:
ما أحسن ما تأول سفيان من هذه الآية، واستنبط منها هذه الحكمة، وذلك ان الكلام إذا لم يكن حكمه مطاوعاً لظاهره وجب المصير إلى باطنه، فنحن نعلم بأن الحيوانات ليست مثل بني آدم، لأن بني آدم في الظاهر يختلفون عن الحيوانات اختلافاً كلياً. فإذاً: هناك أمور في الباطن تتشابه فيها طبائع الآدميين مع بعض طبائع الحيوانات، وهذا من اعمال الفكر والتدبر في مخلوقات الله عز وجل.
لقد ضرب الله لبعض بني آدم أمثلة شبههم بها بالحيوانات، فقال سبحانه في نفر من الناس:
{فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ} الأعراف 176.
وشبه أناساً آخرين بأنهم مثل الحمار يحمل أسفاراً…
ومن كلام ابن القيم رحمه الله في مواضع متعددة من كتبه، قال رحمه الله:
ومن الناس من نفوسهم نفوس حيوانية، وذلك مثل الجهال بالشريعة، الذين لا فرق بينهم وبين سائر الحيوانات إلا في اعتدال القامة ونطق اللسان -هذا هو الفرق الوحيد وإلا فإنهم يشبهون الحيوانات- ليس همهم إلا نيل الشهوة بأي طريق أتت.
النـــــفس الحماريـــــــــة:
يقول ابن القيم رحمه الله
لم تخلق ألا للكد والعلف…
كلما زيد في علفه زيد في كده…
أبكم الحيوان
وأقله بصيرة
ولهذا مثل الله به من حمله كتابه
فلم يحمله معرفة ولا فقها ولاعملا
النــــــفس السبعيــــــــــة:
غضوب همه العدوان على الناس وقهرهم بما وصلت أليه قدرته طبيعته تتقاضى ذلك كتقاضي طبيعة السبع لما يصدر منه…
النـــــفس الفأريـــــــــة:
فاسق بطبعه مفسد لما جاورها تسبيحه بلسان الحال:سبحان من خلقه للفساد!!!
الرؤيـــا وارتباطهــــا بالحــــيوان:
يقول أبن سيرين أن الرسول صلى الله عيه وسلم رأى في قصة معركة أحد بقرا تنحر، فكان الشهداء من المسلمين في تلك المعركة فإن البقر-والقول لأبن سيرين- أنفع الحيوانات للأرض، وبها صلاحها وفلاحها مع مافيها من السكينة والمنافع والذل (بكسر الذال) فانها ذلول مذهلة منقادة غير أبية…
وقد رأى أبن الخطاب رضى الله عنه كأن ديكا نقره ثلاث نقرات، فكان أن طعنه أبو لؤلؤة المجوسي، والديك في الرؤيا رجل أعجمي شرير إلا إذا رُأي يصيح وسط خضرة أو ماء فإنه إيذان بأمر حسن قد قرب حدوثه.
أنتهى قول أبن سيرين
ومن الناس من طبعه طبع الخنزير، يمر بالطيبات فيتجاوزها إلى الخبائث وهكذا الكثير من الناس؛ يسمع منك ويرى من المحاسن أضعاف المساوئ فلا يحفظها ولاينقلها ولا تناسبه، فإذا رأى سقطة أو كلمة عوراء؛ وجد بغيته ومايناسبها فجعلها فاكهته وشغله الشاغل…!!!
ومن الناس من هو على طبيعة الطاووس…
ومنهم من هو على طبيعة الجمل أحقد الحيوان…
ومنهم من هو على طبيعة الدُب خبيث وحقود…
أما أحمد طبائع الحيوان فهي طبائع الخيل، فهي أشرف الحيوان نفسا وأكرمها طبعا، وكذلك الأغنام، والخراف.
وقد حرم الله أكل لحوم السباع وجوارح الطير لما تورث أكلها من شبه نفوسها بها.
أنظر كتاب مدارج السالكين لأبن القيم. [email protected]
إضغط هنا للإنضمام إلى مجموعتنا على الواتساب (٢٩)
إضغط هنا للمحاولة في بقية مجموعات الواتساب من (١) حتى (٢٨)
إضغط هنا للإنضمام إلى قناتنا على التليغرام