عادل عسوم يكتب: خواطر رمضانية (الخاطرة السادسة والعشرون) “(آية فيها أدب إلهي للحوار)! ” 30/26
سوداني نت:
ما إن فرغت من حوار طويل ونقاشات في الفيسبوك، ابتدرت تلاوتي الرمضانية بهذه الآية:
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ ۚ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ ۚ بَلَاغٌ ۚ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ} الأحقاف 35.
فشرعت اسائل نفسي: كيف كانت حجم معاناة أولئك الرسل عليهم السلام خلال نقاشهم وحواراتهم مع أقوامهم؟!؛ والمرء منا يضيق صدره، بل يصل به الحال أحايين لدرجة التفكير في إلغاء اشتراكه في الوسائط جميعا نأيا بنفسه عن مثالب الجدل العقيم واضراره، وذاك نتاج إصرار العديد من الناس على رأي لهم يصرون عليه بالرغم من ايرادك للكثير مما يدحضه من حقائق ونصوص وتبريرات!، ولقد كتب لي أحدهم قبل قليل:
ليس بالضرورة أن يكون لي تبرير لرأيي طالما كنت مقتنعا به!.
لقد كان النقاش حول وجهة نظره بأن فئاما يتاجرون بالدين، رددت عليه بأنني اتفق معك في بعض ماتقول، لكن لنتفق على الذي يفترض أن نفعله معا، ألا وهو الدعوة إلى الدين بصورة صحيحة دون متاجرة به، ثم سألته عن رأيه في الوثيقة الدستورية الحالية في السودان ورفضها لجعل الإسلام مصدرا للتشريع، فإذا به يرد بما يفيد بأنه موافق على ذلك، قلت له ذاك يعني إن رفضك الحقيقي للدين في ذاته وليس الأمر اعتراض على متاجرة جهة بعينها به، فلم يقبل ذلك، وتواصل النقاش دون وصول إلى نتيجة، وتطول الأمر إلى إتهام لي بال(كوزنة) وإنني ضد الثورة!
الحق أقول بأنني وجدت المواساة في الآية الكريمة أعلاه، وبالطبع يبقى القياس مع الفارق (الكبير)، فلست رسولا كما إن محاوري ليس من أقوام أولئك الرسل عليهم السلام، لكنها العبرة والتأسى بقصصهم، فهي لم تحكى لنبينا صلى الله عليه وآله وسلم ثم لنا جزافا.
وأولو العزم هم أهل الصبر من الرسل ممن تحملوا رهق النقاش وما صاحبه من أذى نفسي وجسدي من أقوامهم، تحملوا كل ذلك وأكملوا إبلاغ ما أمروا به إلى منتهاه، وأولو العزم من الرسل هم:
نوح عليه السلام، وإبراهيم الخليل عليه السلام، وموسى عليه السلام، وعيسى عليه السلام، ثُمّ خاتم الأنبياء والمرسلين محمد صلى الله عليه وسلم، إنهم خمسةُ رسل كرام تحملوا أشد أنواع الأذى من أقوامهِم وصبروا على ذلك.
وإذا بي أقلب صفحات كتاب الله لأقف على العديد من الآيات التي ذكرت تفاصيل معاناتهم مع أقوامهم، فمنهم من اتهموه بالجنون، ومنهم من هددوه بالقتل والإحراق بالنار وقد فعلوها، ومنهم من تآمروا عليه بليل وأخرجوه خائفا يترقب، أما التهكم والضحك والتسفيه؛ فحدث عن ذلك ولاحرج!.
والذي يؤلم النفس أن كل أولئك الاقوام عندما يختلي الفرد منهم بنفسه تزول عنه الغشاوة وتلبيس الشيطان فيتبين له الحق بكونه على باطل؛ لكن سرعان ماتغلب عليه شقوته فيؤزه الشيطان أزاً ليعود إلى ضلاله وغيه!
والإصرار على الباطل والاعتداد بالرأي دون التثبت بصحته (مرض) لم يسلم منه حتى أهل الكتب السماوية، فقد وصل الأمر بهم إلى القول:
{وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} 113 البقرة.
ولقد قرأت في أمر الاعتداد بالرأي تفسيرا لآية سورة الكهف التي تتحدث عن رحلة نبي الله موسى عليه السلام وبرفقته غلامه – النبي- يوشع ابن نون للقاء الرجل الصالح الخضر عليه السلام؛ أنّ موسى عليه السلام قام في أحد الأيام خطيبًا في بني إسرائيل، فسألوه عن أعلم أهل ألأرض فقال موسى بأنّه هو، فعاتبه الله تعالى لأنّه لم يُرجع الفضل لخالقه، وأخبره جل في علاه بوجود مَن هو أعلم منه في مجمع البحرين، فسأل موسى ربّه كيف يُمكن الوصول إليه، فأمره الله تعالى بالخروج وأن يأخذ معه حوتاً!.
لعمري إن الأمر ليس بالهين طالما يرتهن بكل ذلك.
ما كان مني إلا أن أطرقت أسبر غور ما لدي من مَعِين، فتذكرت آية عظيمة في قرآننا الكريم، آية تستحق أن تُضَمّنَ في كل مناهج التعليم في دولنا الإسلامية، بل في كل مناهج التعليم لدى شعوب الأرض قاطبة!
إنها آية تعلم الناس الأسلوب الأمثل للحوار والنقاش، إنها جزء من الآية الرابعة والعشرين من سورة سبأ، يقول الحق جل في علاه فيها:
{… وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَىٰ هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ}.
قال صاحب الظلال في تفسير هذه الآية المُعَلِّمَة:
وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين}..
وهذه غاية النصفة والاعتدال والأدب في الجدال. أن يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين: إن أحدنا لا بد أن يكون على هدى، والآخر لا بد أن يكون على ضلال. ثم يَدَعَ تحديد المهتدي منهما والضال. ليثير التدبر والتفكر في هدوء لا تغشى عليه العزة بالإثم، والرغبة في الجدال والمحال! فإنما هو هاد ومعلم، يبتغي هداهم وإرشادهم لا إذلالهم وإفحامهم، لمجرد الإذلال والإفحام!
الجدل على هذا النحو المهذب الموحي أقرب إلى لمس قلوب المستكبرين المعاندين المتطاولين بالجاه والمقام، المستكبرين على الإذعان والاستسلام، وأجدر بأن يثير التدبر الهادئ والاقتناع العميق. وهو نموذج من أدب الجدل ينبغي تدبره من الدعاة..
ومنه كذلك الإيقاع الثالث، الذي يقف كل قلب أمام عمله وتبعته، في أدب كذلك وقصد وإنصاف:
{قل: لا تسألون عما أجرمنا، ولا نسأل عما تعملون}.
انتهى قول الشيخ سيد قطب رحمه الله.
وهذا القرآن قد نوّع من مجالات الحوار وعدّد أطرافه، فكما حاور اللهُ الملائكة والأنبياء في العديد من الآيات القرآنية، فإنه جل في علاه قد حاور أيضا إبليس!، وكذلك حاور خلقه من البشر وغيرهم من الكائنات الطبيعية، بل قد نجد من الناس من يحاجج الله في أسلوب حواري كما هو حال من: {قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} طه 125.
وإن في في هذه الآية مثار المقال منهج (إلهي) لضبط النقاش والحوار وسوقه إلى غاياته المرجوة لما فيها من احترام حقيقي للمحاوِر والمناقش، ولعمري إنه إثبات بأن هذا الإسلام دين (نَصَفة)، وخطابٌ مستنير لعقول البشرية جمعاء، فليت من يعتمر أيما فكر ومنهج يخالفه يعتبر!.
[email protected]