سوداني نت:
عندما كان احمدُ طفلاً كانت أمه تمسحُ على رأسه في تحنان هامسة: إني احلم بك يا أحمد حافظا لكتاب الله وتاليا ومجودا، تصلي بالناس كما كان أجدادك العارفين. وعليك بخلاوي (دار صباح) فإن فيها رجالٌ عرفوا أسرار القرآن ولغته وبركاته، يحتفون بطالب العلم ويمنحونه أدب المدارسة والحفظ والستر والقِرى بلا منٍ ولا أذى. كما أن لهم محبة في المصطفى صلى الله عليه وسلم وللمسيد وللخلوة، فلا يقتربون منها الا بالتضرع والصدقات والهدايا وهم حفاة.
مسكينة أم أحمد فهي لا تعلم أن مدارس الكادر قد سممت عقول ووجدان بعض شبابنا فصار الدين عندهم أفيون الشعوب، وصارت المساجد صوامعا للتخلف، وصارت الخلاوي عندهم مصادرا لتفريخ الغلاة.
مسكينة أم أحمد فهي لم تعلمه اخفاء الخنجر ولا امتشاق الساطور ولا التدثر بالسكين.
مسكينة أم أحمد فإنها لا تدري أن دار صباح أصبحت جبلا للحشاشين وسهلا للقرامطة.
كانت المسكينة تظن أن (دار صباح) مثل سيرتها القديمة متشحة بالوفاء والسلام والكرم والعافية والخلق الرفيع، كانت تظن أن البغلة فيها لو تعثرت بشرق النيل لعقد مجلس الوزراء والسيادة اجتماعا عاجلا تحت اجندة لم لمْ تمهد لها يا برهان الطريق؟
وعلى هذا المسلك المسالم شب أحمد عن الطوق كانت موهبته ومسلكه وخلقه على طريق السالك هو القرآن وأوراد الطريقة التيجانية المفعمة بأدب المعصوم، وتواشيح وأماديح المجموعة النبهانية، ولذلك حينما أحس الصبي الحافظ احمد محمد عبد الله بأخفاف وهمهمة القادمين ظن أنهم أتوا بإفطار طيب للخلوة أو بسحور عميم للطلاب أو بهدايا منتقاه لشرافة اللوح الأخير.
وكانت المفاجأة أو قل الفاجعة حين استلت الثلة المجرمة الأسلحة البيضاء من الخناجر والسواطير والفؤوس والمدي، فكانت بامتياز (ليلة السكاكين الطويلة) تساقط عشرون من الحواريين الذين كان حظهم ما بين الطعن والجراح والتهشيم والموت، فعلوا القساة فعلتهم المنكرة وفروا هاربين في نزالة يحسدون عليها لم يعرفها الخلق السوداني في تاريخه الطويل.
فعلةٌ نكراء لا يقترفها إلا كافرٌ أو فاجرٌ أو فاطر أو غادر. لقد دنس هؤلاء الأوغاد كل مكارم الشعب السوداني وفضائله، لم يراعوا حرمة المصلى ولا قدسية القرآن ولا حصانة الحفظة ولا نعمة الماء الذي وفرته خلوة فيضة أبو العباس قبل أن تُبنى الحارة ويتوافد القاطنون الذين عض بعضهم الأيدي التي أحسنت إليهم.
وابشع من كل ذلك أن هذه الجريمة المكتملة الأركان تمت في أطهر بقاع المنطقة وفي قلب الشهر الكريم. وكان رمز الفجيعة سقوط الوضئ احمد الذي كانت طريقته تعد لاحتفالين في العيد، احتفال حفظه وتجويده للقرآن الكريم، وبنائه على عروسته القادمة التي يدعوا كل أهل السودان -لله مخلصين له الدين- أن تكون حورية مدخرة له في الجنة.
قال الشاهد: من كرامات المشهد أن الشهيد أحمد سقط على لوح الشرافة الذي كساه الدم المهراق، فلم تبقى إلا آية المقاومة التي تدعو هذا الشعب الأسير أن يكسر قيد هذا النظام الغاشم، الذي سرق ثورته وثروته وألقاه جثة هامدة على قارعة طريق الشعوب.
رفع العارف اللوح الرمز فبرقت آية المقاومة (التي تبدأ جهادها بالوعي والموعظة الحسنة والقدوة والايثار حتى مراقي المصادمة) حيث تردد أصدائها في أرجاء الخلوة فارتجت لها كل اصقاع السودان الطويل القامة، الحافي القدمين، والخالي اليدين والحائر العينين ( وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَٰذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا).