سوداني نت:
أعوذ بالله من الشيطان
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ ۗ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾ البقرة 254.
لقد ابتدر الله جل في علاه هذه الآية الكريمة بخطاب موجه للذين آمنوا (يا أيها الذين آمنوا)، والخطاب مفاده أمرٌ وتكليفٌ بالإنفاق، وهو أمر وتكليف بالإنفاق أمر وتكليف من المال الذي آتانا إياه (مما رزقناكم)، فكل المال مال لله، ومانحن إلا مستخلفين فيه:
﴿آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ ﴾ الحديد 7.
فإن أدَّينا واجبه أفلحنا بتوفيق الله، إذ واجب المال الإنفاق منه (زكاة وصدقة)، فإن بَخِلنا ولم نؤدِّ حق الله فيه؛ يُخشى علينا سلبَه، فنخسر دنيانا وآخرانا.
وقد جعل الله – برحمته- الصدقة دليل صدق للإيمان، فقد خلق الله النفوس مجبولة على حب المال، لذلك قال نبينا صلى الله عليه وسلم (الصدقة برهان)، أي برهان على صدق الإيمان إن تم الإنفاق بالنية المرجوة، وهنا باب عريض للشيطان، ومدخل للوسوسة لصاحب المال بكونه من تعب لأجل جمعه، وأفني من عمره السنوات الطوال، واستخدم لأجل ذلك عقله وخصم من راحته وصحته الكثير، ولعل في قصة قارون لعبرة، وكذلك في قصة الوليد بن المغيرة المحكية في سورة المدثر:
{ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16)}.
والغِنى يكون محمودا عندما يكون المستخلف في المال من المؤمنين المنفقين، وليس الأمر كما جاءت به الشيوعية المؤسسة على الاشتراكية التي تمنع تملك وسائل الإنتاج للناس لتسود فيهم ديكتاتورية البروليتاريا، وليس – أيضا- كما جاءت به الرأسمالية من طغيان وشطح في الملكية الفردية، وجعل المال مال مالكه يفعل فيه وبه مايشاء هواه، أما الإسلام فقد جعل المال مال الله، يستخلف فيه الناس، لكنهم مطالبون بأداء حقوق شرعها الله فيه، وقد كان في الأَنبِياءِ وَالمُرسلينَ وَالسَّابِقينَ الأَوَّلِينَ من كان غنيًّا كَإِبرَاهِيمَ ولوط وَأَيُّوبَ وَدَاوُدَ وَسُليمانَ عليهم السلام، وَمن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عُثمَانَ بنِ عَفَّانَ وَعَبدِالرَّحمنِ بنِ عَوفٍ وَطَلحَةَ وَالزُّبَيرِ أغنياء ومنفقين، وأيضا كان هناك الفقراء كالمسيحِ عيسى ابن مريم وَيحيى بن زكريَّا عليهم السلام، وكذلك عليِّ بن أَبي طالب وأَبي ذَرٍّ الغِفَارِيّ وَمصعب بن عميرٍ الذي افتقر بعد إسلامه وسلمان الفارسيِّ، رضي الله عنهم، وَفيهم من اجتمع له الأَمران فاغتنى تارةً وافتقر تارةً أُخرى؛ فأَتى بإِحسان الأَغنياءِ وبصبرِ الفقراءِ، ومن هؤُلاء نبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، وَأَبو بكرٍ وعمرُ رضي الله عنهما.
الإنفاق تحكمه قاعدتان مهمتان، الأولى ترتهن بالنية الخالصة لوجه الله، والثانية عدم المن والأذي، يقول الله جل في علاه: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} البقرة 262.
ومن المن والأذى ما يكون في القلب دون اللسان، وذاك له صلة بالرياء، ويظهر ذلك في عيني المتصدق، وذاك وإن كان لا يبطل الصدقة إلا إنه ينقص من قدرها عند الله (الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور).
أما النوع الثاني من أنواع المنّ – وهو الأسوأ-، فهو المن باللسان، وقد وقعت على لطيفة منسوبة للحسن البصري رحمه الله حيث قال: (إذا أنفقت ورأيتَ سلامك يثقل على المُنْفَقُ عليه؛ فكفّ سلامك عنه).
لذلك فإن صدقة السر التي لامن فيها تطفئ غضب الرب.
ودوننا الحديث الصحيح المتفق عليه عن السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله ومنهم: (ورجل تصدَّق بصدقة، فأخفاها حتى لا تعلم يمينه ما تنفق شماله).
ولاغرو أن القول المعروف لأفضل من صدقة يتبعها أذي: {قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى ۗ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ} البقرة 263.
فالقول المعروف صدقة، والمغفرة أن تغفر للناس ما أخطأوا عليك صدقة، هذه صدقتان،
ولعل في مقولة أهلنا في أريافنا بعضٌ من ذلك عندما يقولون: (بليلة مباشر ولاضبيحة مكاشر).
وقبل أن اعدد محاسن الصدقة، أجد أنه يلزمني التنبيه إلى رسالة رائجة في القروبات يتحدث كاتبها عن تفسير خاطئ للآية الكريمة الآتية:
{وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَىٰ أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ} 10سورة المنافقون.
يقول التفسير الخاطئ المتداول بأن (الميت) قد تخير الصدقة دون بقية الأعمال الصالحة؛ إن قدر له بأن يعود إلى الدنيا، وذلك ليس بصحيح، لكونه لم يمت أصلا! ، والآية الكريمة أبانت بأنه (مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)، وذلك مثل قوله تعالى {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ} 99 سورة المؤمنون.
فالموت جاءه؛ ولكن لم يأخذه بعد.
ثم إن الآية قد ابتدرت بالحديث عن الإنفاق والصدقة: (وأنفقوا من مارزقناهم).
هناك الكثير من الأحاديث الصحيحة الواردة في تثمين وإعلاء أمر الصدقة تندرج تحت هذه العناوين:
* الصدقة تجعل الملائكة تدعو بالخلف على المتصدق فتقول “اللهم اعط منفقا خلفا”
* الصدقة تنتصر على الشياطين، قال صلى الله عليه وسلم “لايخرج رجل شيئا من الصدقة حتى يفك على لحييها سبعين شيطانا”
* الصدقة تعالج المرضى، قال صلى الله عليه وسلم “داووا مرضاكم بالصدقة”
ولنتوقف قليلا بين يدي علاج المرضى بالصدقة، ولعلنا تصدَّقنا كثيرًا من قبل؛ لكننا لم تفعل ذلك بنيَّة طلب الشفاء من الله بالتصدق، لنفعل ذلك منذ الآن، ولنكن واثقين بأن الله سيكتب الشفاء بحوله وقدرته، وسنرى من ربنا الكريم فوق ما يرضينا، لشبِع فقيرًا، أو نكفلْ يتيمًا، أو نتبرَّع لوقف خيري، أو نشرع في صدقة جارية، فالصدقة لَتَرفع بإذن الله تعالى الأمراضَ والأعراضَ من مصائب وبلايا، وقد جرَّب ذلك الموفَّقون من أهل الله، فوجدوا العلاجَ الروحي أنفع من العلاج الحسِّي، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج بالدعاء، وكان السلف الصالح يتصدَّقون على قدْر مرضهم وبليَّتهم، فلا يلبثون قليلاً حتى يعافيَهم الشافي المعافي، الكريم الرحيم جل جلاله، فلا تبخلْ على نفسك إن كنت ذا مالٍ ويسار، وحتى لو كنت فقيرًا فتصدق ولو بشق تمرة بنيَّة شفائك أو شفاء مريضك.
وكلما كان الفقير أشد فقرًا وحاجة للصدقة كان أثرُ الصدقة أكبر وأعظم، مع العلم أن (في كل كَبِدٍ رَطبةٍ أجر)؛ متفق عليه مرفوعًا، فلا يلزم أن تحصر صدقتَك على الإنسان فقط، بل إن أطعمت أو سقيت حيوانًا بنيَّة شفاء مريضك فسيُشفَى بحول الله والله واسع عليم.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: (فإنَّ للصدقة تأثيرًا عجيبًا في دفع أنواع البلاء، ولو كانت من فاجر أو من ظالم بل من كافر فإن الله تعالى يدفعُ بها عنهُ أنواعًا من البلاء، وهذا أمر معلوم عند الناس خاصتهم وعامتهم، وأهلُ الأرض كلُّهم مقرُّون به لأنَّهم جرَّبوه)
(الوابل الصيب لابن القيم رحمه الله تعالى).
وقال رحمه الله تعالى في أسباب شرح الصدر: (ومنها الإحسانُ إلى الخلق ونفعُهم بما يمكنه من المال والجاه والنفع بالبدن وأنواع الإحسان، فإن الكريم المحسن أشرحُ الناس صدرًا وأطيبهم نفسًا وأنعمُهم قلبًا، والبخيل الذي ليس فيه إحسان أضيقُ الناس صدرًا وأنكدهم عيشًا وأعظمُهم همًا وغمًا..)
(زاد المعاد لابن القيم).
* الصدقة تطفئ غضب ربك ,قال صلى الله عليه وسلم “ان الصدقة لتطفئ غضب الرب”
* الصدقة تمحو خطاياك ,قال صلى الله عليه وسلم “الصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار”
* الصدقة تحمي عرضك وشرفك، قال صلى الله عليه وسلم “ذبوا عن اعراضكم بأموالكم”
* الصدقة تحسن ختامك، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (صنائع المعروف تقي مصارع السوء) وقال صلى الله عليه وسلم: (ان الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء).
* الصدقة ظلك من اللهب، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس).
* الصدقة تفك رهانك يوم القيامة، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (من فك رهان ميت – عليه الدين- فك الله رهانه يوم القيامة).
* الصدقة سترك من النار، قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة، فأنها تسد من الجائع مسدها من الشعبان).
ولعلي اختم بهذه الحديث الصحيح الذي يبين لنا أفضل مايمكن التصدق به:
عن الإمام أحمد وغيره، عن سعد بن عبادة قال: قلت: يا رسول الله إن أمي ماتت أفأتصدق عنها؟ قال: نعم، قلت: فأي الصدقة أفضل؟ قال: سقي الماء. حسنه الألباني.
إنها الصدقة يا أحباب، إنها شعار المتقين، ولواء الصالحين المصلحين، زكاة للنفوس، ونماء في المال، وطهرة للبدن، مرضاة للرب، بها تُدفع عن الأمة البلايا والرزايا، تطهّر القلوب من أدران التعلق بهذه الدنيا وأوضارها وشهواتها وملذاتها؛ {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} التوبة 103.
اللهم اجعلنا من الصائمين الصادقين، واجعلنا ياكريم من المتصدقين الذين لايمنون ولايأذون، واجعلنا من القانتين والمستغفرين بالأسحار، واحفظنا ومن يلينا بحفظك، واسترنا بسترك، وعافنا واعف عنا، وفرج عنا الكرب وأزل الهموم وأفض علينا من نعيمك مايغنينا في الدنيا ويكون لنا معين لنيل رضوانك وجنتك، إنك ياغني يارحمن يارحيم ولي ذلك والقادر عليه.