سوداني نت:
كم تأذى السودان وأهله بسبب ذهنية (إستسهال الأمور)!.
هذه الذهنية تكاد أن تكون (جِبِلَّة) في العديد منا في هذا السودان، ولا أدري لماذا ننفرد بذلك دون بقية الشعوب المحيطة بنا في الجوار القريب والبعيد، لقد سبرت غور شعوب الوسط والجنوب الأفريقي من حولنا فلم أجدها فيهم، وكذلك إستعرضت شعوب الصحراء فوجدتها ألزم لقساوة الصحراء، وبذلك فإن هذه الذهنية تنأى عنهم، ياتُرى؛ هل توسط موقعنا الجغرافي مابين السافنا والصحراء هو السبب في ذلك؟!
أم أن السبب له وصل بتربيتنا الصوفية؟!
على كل حال؛ فإن المقال ليس بصدد البحث عن إجابة للسؤال أعلاه، إنما هو مسعى منِّي لتبين كنه هذه الذهنية وما تسهم به في مجتمعنا.
بلا شك لهذه الذهنية -على مستوى مجتمعنا- لها من الفائدة والإيجاب الكثير، فهي تعين أهلنا على حلحة الكثير من قضايا حراكهم المجتمعي، فهي تدفع إلى عدم استصعاب الأمور مهما كان حجم تعقيدها وخطورتها، ولقد ذخر تراثنا المجتمعي وثقافتنا الشعبية بالكثير من الأمثال والمقولات الداعمة لهذه الذهنية، (باركوها ياناس)، (حتى الروح بتروح)، (الجاتك في مالك سامحتك)، ثم كم من زيارات تعارف أو خطوبة بين الأسر تحولت إلى عقد قران!، ولقد قرأت مقالا في أحد الصحف الخليجية لباحث عربي خلص فيه إلى أن السودانيين أكثر الشعوب العربية قبولا للعفو في قضايا القتل، وقد يصل الأمر إلى الامتناع عن أخذ الديّة!.
لعل في كل ذلك محمدة، طالما كان الأمر على المستوى المجتمعي، لكن يختلف الأمر عندما يرتهن بقياداتنا السياسية وحكوماتنا مع الخارج، فكم أضرت بالسودان هذه الذهنية (الساذجة) من خلال بعض قياداتنا السياسية، ولعل أكثر أولئك حضورا في الذاكرة الرئيس إبراهيم عبود رحمه الله، فبالرغم من الإجماع بأن فترة حكم عبود كانت أفضل فترات الحكم في السودان من حيث الإسهام في البنية التحتية، والسلام المجتمعي، إلا إن التأريخ (لم ولن) يرحمه بسبب التفريط الذي حدث من حكومته في ملف نهر النيل واتفاقية السد العالي، وبلا جدال فإن السبب الأساس في ذلك هي (ذهنية استسهال الأمور) لدى عبود والعديد من وزرائه!
وإذا بالزمان يدور دورته لنختار الدكتور حمدوك رئيسا لمجلس وزراء الفترة الإنتقالية، وقد كان العشم معقودا بأن تكون مؤهلات الرجل الدراسية وخبراته المستمدة من عمله وتعامله مع المنظمات العالمية داعمة لحنكة وتؤدة ونضج سياسي له، لكن وللأسف تبين بأن الرجل صاحب ذهنية (استسهالية) تكاد تفوق ذهنية الرئيس عبود!
لقد ذهب حمدوك إلى أمريكا وهو يمني نفسه برفع الحظر الذي أستمر لأكثر من عقدين من السنوات؛ ورحاله ليس فيها سوى بضاعة مزجاة عمادها قرارات الشاب مفرّح والشابة بت البوشي، وهما من وجدا نفسيهما -فجأة- وزيرين بسبب اختيارات تجم وقحت!
ولعلي بالدكتور حمدوك قد كان يتأسى بوزير خارجية العراق في عهد صدام حسين رحمه الله (طارق عزيز) الذي أعجبت وأشادت به صحف أمريكا وفضائياتها بسبب طلاقة لسانه تحدثا بالإنجليزية، فظن حمدوك (يقينا) بأنه سيجد ذات الذي وجده طارق عزيز في أمريكا، والذي كسب الجولة الأولى لصالح العراق، إن كان على مستوى المنظمة الأممية التي رفضت المسعى الأمريكي تجاه العراق، أو حتى على مستوى حكومة بوش الأب التي انقسمت على نفسها!
وإذا ببضاعة حمدوك تعود إلى السودان برحال (دُسَّ) فيها (صواع الملك)!، وإذا بالمحصلة (التزامٌ) (ساذج) و (متسرعٌ) منه بالقبول بدفع دية لجنود أمريكان لم يقتلهم سوداني، (حكومة كانت أو شعبا)!
لعمري إنها ذهنية الاستسهال التي جعلت قادتنا يفرطون من قبل في نصيب السودان واجياله اللاحقة من مياه النيل، وكذلك في التفريط في مدينة وادي حلفا وكل القرى من حولها، وما لايقدر بالمال من آثار وتأريخ تليد!
ويظل حمدوك أسير ذهنية الاستسهال، فإذا به يقبل (التوريط) من بعض السذج من قيادات (تجم) عندما أقنعوه – وهو رئيس الوزراء- بتغيير لوحة بيت للطالبات تم بناءه وحمل إسم (علي عبدالفتاح) رحمه الله، ليُستبدل بإسم آخر جعلوه مكان الإسم الأول!
وإذا بحمدوك أيضا لا يفتأ أسيرا لذات الذهنية الاستسهالية وهو يستصحب (علاقته الشخصية) مع (الحلو) فيذهب إليه مجردا من كل شئ!!!
فلا علم للدولة التي يرأس مجلس وزرائها، ولاحرس شخصي، ولا مرافقين من وزرائه، بينما يرتفع علم (الكانتون) الذي يرأس حكومته الحلو ويرفرف فوق السارية!، وإذا بالمنصة مكتوب على جدارها مناداة ب(علمانية)، بينما (الصليب) مرفوع بالجوار!
هذا الحلو يا حمدوك سيستقوي بهذه الزيارة، فطالما استطاع أن يأتي برئيس وزراء السودان بالشروط التي (املاها عليه) فإنه سيستمرئ ذلك خاصة بعد الدعم الذي يجده الآن من المنظمات الأمريكية التي استثنت مايسميها الحلو ب(المناطق المحررة) باعتبارها أحوج للدعم الغذائي دون بقية انحاء دارفور وكردفان وشرق السودان كلها!
وللأسف فإن حمدوك الذي يتصرف بذهنية الاستسهال لا أخاله كان يعلم كم الدعم الصيهوني لكاودا وماحولها، فأهلنا النوبة في كاودا وما حولها يُعتبرهم بعض باحثي اليهود السبط الثاني عشر (المفقود) من أسباط اليهود!
لذلك فقد ظلت اياديهم سخية على الحلو (الحامل للجنسية الأمريكية)، وظلت الدعومات العينية والمادية تصل إلى كاودا برغم الحظر الأمريكي على السودان، بل وظلت كتب المناهج الدراسية -المخالفة للمنهج الدراسي السوداني- تطبع في الخارج وتصله لتوزع في مدارس كاودا طوال الأعوام الماضية!
وهاهو الدكتور حمدوك وفي سابقة لم تحدث من رئيس دولة من قبله يطالب بولاية مجلس الأمن على بلده!
والأسوأ من ذلك في الطريق، فقد أعلن المفاوض المصري فشل الاتفاق في شأن ملف سد النهضة ومياه النيل الأزرق، وسيرفع الملف إلى رؤساء الدول الثلاث للوصول إلى حل نهائي كما هو متفق عليه من قبل، هنا يكمن الإشكال الأكبر، فكما اسبقت من قبل في عدد من مقالاتي فإن اشكال المفاوض المصري ليس في فترة ملئ بحيرة السد؛ بقدر ماهو في اسلوب التعامل مع كمية المياه التي ستسمح لها اثيوبيا بالانسياب من السد، الأشكال عليها سيكون مع السودان دون اثيوبيا، فإثيوبيا ستسمح للمياه سيتفق على كم ملياراتها من الأمتار المكعبة بالجريان والخروج من بوابات السد كي تدير توربينات السد لتنطلق منه الكهرباء، فهي التي لأجلها بني السد، و المفاوض المصري من الآن وبذكاء يهيئ الرأي العام السوداني والعالمي بأن أيما كمية من المياه ستسمح بها اثيوبيا لن تكون كافية لمصر، ووصل الأمر بأن تعلن رئاسة الجمهورية دخول مصر في عهد الفقر المائي منذ الآن، وذاك تحذير وايعاز للسودان بأن لايطالب بمتر مطعب من ايراد النيل الازرق من مياه النيل (الذي يعد عمدة أنهار السودان من حيث الزخم المائي)، الذي أخشاه أن تدفع ذهنية الاستسهال حمدوك ليوقع بحق مصر (التاريخي) في مليارات الماء الأربعون -أو مادونها- الخارجة من سد النهضة استصحابا لاتفاقيتي مياه النيل بين مصر والسودان دون أن ينتبه بأن كل اتفاقيات مياه النيل القديمة في حكم الميتة، وذلك بعد اجماع بقية دول حوض النيل على اتفاقية جديدة بإسم (اتفاقية عنتيبي)، وقد كتبت عن ذلك في ثنايا مقالين بعنوان (همسة في أذن الدكتور حمدوك) و (همسة في أذن أبي الهول).
الذي أتوقعه ان تزداد الضغوطات على حمدوك خلال الفترة القادمة، ان كان قبل الحكومة المصرية أو من قبل الخزانة الأمريكية، وذلك لحثه إن لم نقل إجباره على التوقيع، فهناك التلويح برفع الحظر الأمريكي، وكذلك التلويح بانجاح مؤتمر المانحين المزمع انعقاده خلال أشهر قليلة، وحال السودان الآن من حيث الحوجة معلوم للجميع، وكذلك اتوقع أن تلوِّح الحكومة المصرية بملف حلايب وشلاتين.
لا لذهنية الاستسهال لقضايانا المصيرية يادكتور حمدوك، لا للتفريط في استقلال قرار السودان، ولا للتفريط في حق السودان من مياه النيل الأزرق.