سوداني نت:
تعرفت على الأخ العزيز الطيب مصطفى رحمه الله، قبل أن أراه، بعد النصف الثاني من الثمانينات في دولة الإمارات العربية المتحدة، كان يعمل وقتها في مؤسسة اتصالات بأبي ظبي، وأعمل أنا صحفياً في مجلة (الإصلاح) التي تصدر في دبي، وكان يجمع بيننا مقال يكتبه الطيب مصطفى في المجلة بانتظام، شدني في مقاله كما هو دائماً وضوح الرؤية وقوة التعبير عنها..
ثم التقينا مرة أخرى للعمل سوياً إبان توليه إدارة تلفزيون السودان العام ١٩٩٩م.ولم تمض علاقتي به هناك سوى عاماً واحداً حين أُقيل على خلفية مواقفه المستقلة القوية تجاه تغطية المفاصلة بين الاسلاميين وتداعياتها.
عهد الطيب مصطفى في إدارة التلفزيون كان الذهبي بامتياز بشهادة كثيرين سبقونا بأعوام للعمل فيه، حيث عانق التلفزيون الفضاء لأول مرة بتقنيات عالية، واستثمرت إمكانيات كبيرة في تطويره، وحيث نال فيه العاملون ما يواجه الحياة بكرامة.
لم أبق من بعد الطيب في التلفزيون كثيراً فلم يرق لي ما كان يجري من معارك كسر العظم بين السلطة والشيخ الترابي ومناصريه الذين يحاولون فتح الفضاء السياسي على أفق جديد يخرج البلاد من مأزق شمولية نظامها السياسي ، ولم أشأ أن أكون من أدوات تلك المعركة ، ولم ترق للقائمين عليه مواقفي تجاه السياسة التحريرية التي عززت القبضة على المحتوى الاعلامي.
ولكني تعلمت من الطيب مصطفى الكثير، وخاصة في أبهى ما يميزه، وأبهى ما يميز الطيب القدرات الادارية الهائلة ، فبذات الهمة المشهودة له يتابع الطيب استراتيجيات الإدارة، وتفاصيل الأداء اليومي. وتلك ميزة مدتني بكثير من الخبرات، وأضافت الكثير لحياتي العملية والمهنية .
أميز ما يميز الطيب الهمة العالية والدأب الحثيث فيما يرى من مسار حياتي، فهو أخاذٌ للمواقف بحقها، وللطيب نفس موكلة بالمجد، يطلبه طراً، تتعلق همته بالثريا، تنشد العلا أبداً، لا يرضى الدنية، ولا يرى مستحيلاً تحت الشمس، لا ينساق الى ما لم يؤسس عقله، كل ذلك في مرونة تستمع وتحاور، ولا تتصلب إلى موقف إن رأى الأصوب الأخْيَر. يغالب الحادثات مهما ضغطت، لم يأبه لظرف سياسي كان فيه مقرباً ثم أصبح فيه منبوذاً، أو ظرف واجه فيه عداءً ساقه إلى المعتقل، ولم يلن لضغط نكبة أصابت الأهل، أو خطب ألم بقريب، يواجه عض النوائب بما يناسبها من قوة المراس، فهو مجالد على كل حال، يغالب دون أن يفت له عضد، حتى وان تقدمت به السنون.
هذه النفس العالية اورثته زفراته الحرى، واوردته تعباً مستقراً، ورهقاً مستداماً، فقد مات واقفاً ينافح عما يرى.
كان انفصال الجنوب من المواقف التي فصلت بيننا، فبينما كان يراه حلاً لمأزق السودان وأزمته المتطاولة، كنت أراه تراجعاً للمشروع الإسلامي في أفريقيا، وانتصاراً للاستراتيجيات المضادة وخاصة الصهيونية، يوم إعلان الانفصال جاءني أحد الشباب العاملين مع الطيب، فقلت له اليوم اُختصت بالفرحة جهتان، اسرائيل ومنبر السلام العادل، وقد أوصل الشاب مقالتي الي الطيب مصطفى الذي عاودني معاتباً على الجمع بين المنبر وإسرائيل مهما كان الاختلاف، وظل هذا موقف المخالفة بيننا حول الجنوب، وظل الحوار ودوداً بيننا إلى أن فارق إلى الرفيق الأعلى.
بلادنا اليوم فقدت رجلاً لن تستطيع مهما كان بون المساحة التي تفصلك عنه إلا أن تحترم فيه شجاعته، وصلابته،وعلو همته وصدقه فيما يعتقد.
وللاسلاميين بخطوطهم كافة متناسقة ومتباعدة ان يرددوا اليوم مع المتنبئ.
أين أزمعت أيا هذا الهُمام
نحن نبتُ الرُبا وأنت الغمام.
فقد ظل وابلاً ممطراً ساقياً لشجرتهم حتى اتاه اليقين. رحمه الله رحمة واسعة، وجعل الفراديس العلا متقلبه ومستودعه ومستقر روحه.