سوداني نت:
لعمري إنها أغنية من ماتعات الزمن الجميل!!!…
كلماتها معجونة بطين جروف الشمال، وقد خرجت كلماتها مغناة من فيه قامتنا أسماعيل حسن ذاك السامق بعلو أطول نخلاتنا في الشمال…
ويتلقف القصيدة قامة أخرى؛ كم لوّن صباحاتنا وأماسينا بلون البنفسج والورود، فبث فيها كل عنفوانه التلحيني فخرجت غضة…
ريانة…
ممشوقة…
ألِقة…
ساااااحرة…
هذه الأغنية كانت من أحب القصائد إلى قامتنا أسماعيل حسن إذ باح بذلك في الكثير من اللقاءات وللكثير من الأصدقاء.
لقد كانت من أولى القصائد التي ألفها بين يدي مقدمه لأول مرة الى العاصمة، والعاصمة لابن الأقاليم عوالم وفضاءات تكتنفها الكثير من الأحاسيس والتطلعات والآمال، جاء ود حد الزين إليها وهو واثق من شاعريته، والرجل بطبعه رحمه الله مشهود له بقوة الشكيمة والأعتداد بما عنده.
شرع في تلمس مجالس الفن في حي السجانة، الحي الريان بدفق الفن والشعر، والسجانة برغم (عاصميتها) ألاّ انها تتصل بحبل ممدود إلى الشمال، فكانت ومافئت سكنا للكثير من أهلنا القادمين من الشمال.
وهذه الأغنية تعبّر بإجادة عن التشتت مابين القرية والمدينة، لعمري إنها بوح شفيف، ووصف لا يترك شاردة ولاواردة لمشاعر كل قادم إلى العاصمة يحتقب عنفوان شبابه وأمام ناظريه في خط الأفق زخم الآمال الوردية والتطلعات الى حياة الرغد وتمكين الأقدام في ديار تختلف عن القرية في حراكها ومضامين حياتها وسعة جنباتها، وكم أعيش ذات المشاعر والأحاسيس كلما طرقت هذه الأغنية مسامعي، فهي برغم وصفها لحياة العاصمة؛ الاّ انها لا تنفك عن وتد القرية هناااااك في البعيد!…
فالقرية دوما في البال، وشاعرنا يعود القهقري بخياله يوم حزم متاعه القليل لينام مبكرا حتى لا تفوته اللّواري والباصات، فإذا به يرى بعين المنام سفره فوق جناح الشوق، يكوس نجما بعييييييد ضواي…
هنااااك حيث (الخرتوم بالليل)، وألق أضواء الكهارب، وأرض الحور اللاّئي كان يرى سمتهن في أحاديث القادمين من أبناء أهله من أهل البندر عندما يأتون إلى البلد خلال اجازاتهم، وإذا بقوافل شوقه وآماله تشق التيه، وتجر النَّم مع الحردلو في الدوباي…
وهنا يمتعنا وردي أكثر بصوته الفخيم وهو يشبع مد (الدوبااااااااي) لينهي المقطع من عَلٍ، ثم ينحدر الى قاع النبع ليعود صاعدا السلم من جديد ب(واااااا أسفاااااي)!!!…
وشاعرنا حاسر الرأس عند كل جمال يستشف من كل جمال جمالا،
إنه لأجل تلك العيون الحلوة هناك في تلك الديار مستعد لبيع كل مايليه من دنياه ليتسنى له التسفار إليها حيث تكون، ولابأس ان ترك دنياه التي نشأ فيها، برغم يقينه بكونها النبع الحقيقي للطيبة وسماحة النفس، فعنفوان الشباب والتطلع إلى عوالم المدينة يستلب منه نفسه وعقله وخياله، ولكن ما أن يصل إلى العاصمة ويستقر فيها وتمر السنوات يعاوده الحنين إلى القرية، يظل يتقلب على فراشه في السجانة متوسدا وسادة شوقه ميمما بخياله إلى القرية، حيث (يقالد) فيها عهد صباه الجميل في ظل جبل (كلم كاكول).
ولعمري إن ابن القرية والريف يظل دوما مرتهنا له مهما رفل في نعيم المدينة، والنشأة في القرية تظل في الوجدان بمثابة الربيع من الزمان، فهي دوما مبعث للراحة في دواخله وهو منشغل بمسؤلياته يكابد رهق العمل في دهاليز الخدمة المدنية في العاصمة، وما أن تطاله هدأة إلا ويسافر بخياله إلى القرية مخاطبا أيام صباه قائلا لها:
عشان ماتبكي ببكي أنا
واحاكي الطرفة في نص الخريف بكاي!…
والطرفة هي فصل من فصول الخريف (عينة)،
وعددها عشر عينات منها الضراع والنترة والطرفة، وتبدأ الطرفة من الرابع من أغسطس وحتى السابع عشر منه، وتُسمى «الطرفة البكاية»؛ لأن الأمطار تهطل فيها غالبًا بالنهار، وتستمر في الهطول بحبيبات صغيرة لفترات طويلة، فتحبس الناس في البيوت ولا يستطيعون العمل في البلدات إلا قليلًا، وإن صحَّت يزيد بور البلدات (أي عدم فلاحها ونجاحها)، جوُّها مُغيم وبارد ولا برق ولا رعد إلا قليلًا، وهي تَروي الأرض جيدًا.
قال الشاعر ود شوراني:
ظميانين وابل الطرفة فوقنا يهطل،
من الخلا كل عمل سار متعطل،
ست حد الصبا اللغناه ما بنبطل،
رايو معاها تشفى المنا والله تقتل.، وود حد الزين -باعتباره ابنا لمنحني النيل- قد يكون ايضا يعني أيضا نبات (الطرفي) الذي تظل قطرات المطر فيه باقية على سطح الجذع منه والأوراق من بعد انقطاع المطر، وكأنها الدموع…
فإن كان يعني العينة او نبات الطرفي؛ فالقاسم بينهما المشابهة بالبكاء…
إنه يقول: لان كان هناك لزوم لبكاء؛ فاليبك هو على أن يبقى ماضيه شفيفا جميلا كما كان!…
وما ذاك إلا لكونه من الحرص بمكان لأن تظل ذكرى أيام صباه نبعا للراحة والجمال، يعود اليها كلما ادلهمّت به خطوب العاصمة وارهقته هموم الحياة فيها…
فالحياة في العاصمة حياة (مدافرة) ومكابدة، وهو الذي يحمل فوق كاهله حمولا تهد جمال الشيل من مسئوليات للأسرة والأهل وهو أهل لها…
وقد آلى شاعرنا على نفسه أن يظل يشق ليل كل العتامير متوكلا على الله يستصحب مشعلا للنور وصولجانا للتفاؤل، فيركل أمامه دُثُرُ ظلام التشاؤم والدعة والخنوع، وهناااااك عند أقتران أفق الأرض بخط السماء؛ تلوح بسمتها الجميلة، إنها ابتسامة حبيبته التي يتمنى لو تشرق عليه شمس يوم نبيل يجمعه بها، إنها بسمة عند ارتسامها في أفق خياله لاتلبث (مشاتل الريد) إلا وتتفتح دونها، فيحس بالجوة جوة الجوة زغرد فيهو صوت الناي!…
مااااااأحلاه من يوم حينها، يوم يرمح قلبه (ويتاتي) زي قدلة جنا الوزين يتاتي!…
آه منك يازمن، كم كان قويا ومحتدا بعنفواه يوم إعتاد أن يأتيه الآخرون يشكون له أفاعيل الحب والشوق بهم، فيواسيهم ثم يرفدهم بالحلول وتطييب الخواطر، ولكنه الآن مبعثر بين قرية ومدينة، والحبيب منه قاب قوسين ولا يستطيع إلى الزواج سبيلا، وما أقساها من حياة!
واااااأسفاي…
ارادة المولي رادتني وبقيت غناي
وحاتكم انتو وا أسفاي
ارادة المولي رادتني
وبقيت غناي
اسوي شنو مع المقدور
براهو الواهب العطاي
*
منو البيدور يساهر الليل يسافر
فوق جناح الشوق يكوس نجما بعيد ضواي
اذا وصفولو ارض الحور
تلاقي قوافلو طول اليل تشق التيه
تجر النم مع الحردلو في الدوباي
واسفاي ببيع الدنيا كل الدنيا وااسفاي
عشان خاطر عيون حلوين وااسفاي
منابع الطيبه متجاورين وااسفاي
ومتسامحين وفي السمحين
واسافر فوق صبي العين معاكي
سلامه يادنياي
*
بتمدد وبتوسد وسادة شوق
وانوم مرتاح وخالي البال
واقالد تاني عهد صباي
عشان ماتبكي ببكي انا
واحاكي الطرفه في نص الخريف بكاي
حمولي تهد جمال الشيل
وفايت في العتامير ليل
ومتوكل عليك ياألله دافر الليل
بريق البسمه ان لاح لي
بتتفنح مشاتل الريد
واحس في الجوه جوه الجوه
زغرد فيها صوت الناي
*
اسفاي اذا ماشفته ناس سمحين يتاتو
زي قدلة جني الوزين يتاتو
تلاقي قليبي يرمح جاي
لما يتاتو زي قدلة جني الوزين يتاتو
حليل الكان بيهدي الغير
صبح محتار يكوس هداي
من ناس ديله
واأسفاي
من زي ديله
واأسفاي
ارادة المولي رادتني وبقيت غناي
[email protected]