عادل عسوم يكتب: خواطر رمضانية (الخاطرة الثامنة والعشرون) “تطييب النفوس وجبر الخاطر” 30/28
سوداني نت:
لقد وصل الأمر ببعض العلماء أن أسموها عبادة؛ علما بأن العبادات توقيفية، وماذاك إلا لعظم قدرها، فهي خلق إسلامي عظيم يشي بسمو نفس فاعلها وتمام وعيه ونضجه، وكذلك رقة مشاعره، قال سفيان الثوري رحمه الله القول:
(مارأيت عبادة يتقرب بها العبد مثل جبر خاطر أخيه المسلم)!.
ولقد احتشد القرآن بعدد من الآيات التي تحدثت عن جبر الخاطر ، ولعل أولاها تطييب الله لخاطر يوسف عليه السلام وهو الصبي حينها عندما ألقاه إخوته في الجُبْ:
{فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ ۚ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَٰذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} 15يوسف.
بالله عليكم كم هو تأثير هذا التطييب لنفس صبي وجبر خاطره وقد حاق به هذا الظلم الشنيع من إخوته،
وظُلْمُ ذَوِي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَـةً
عَلَى المَرْءِ مِنْ وَقْعِ الحُسَامِ المُهَنَّـدِ،
فمابالكم عندما يكون من أخوة!
فقد وجد يوسف نفسه بلا حول ولاقوة في بئر تحيط بها الصحراء!
إنه الله (الجبار)، والجبار من أسماء الله الحسنى، ولعل البعض يخطئ في فهم معنى إسم الله الجبار، والمعنى كما أورده الزجاج في تفسيره لأسماء الله:
هذا الاسم بمعناه الرائع يُطمئنُ القلبَ ويريحُ النفس فهو سُبْحَانَهُ “الذِي يَجْبُرُ الفَقرَ بِالغِنَى، والمَرَضَ بِالصِحَّةِ، والخَيبَةَ والفَشَلَ بالتَّوْفِيقِ والأَمَلِ، والخَوفَ والحزنَ بالأَمنِ والاطمِئنَانِ، فَهُوَ جَبَّارٌ مُتصِفٌ بِكَثْرَةِ جَبْرِهِ حَوَائِجَ الخَلَائِقِ”.
ومن آي الله آية عظيمة جبر الله فيها خاطر نبينا صلى عليه وسلم عندما أمره بالهجرة من مكة (التي ولد وعاش فيها طفولته وصباه) إلى المدينة، وقد قال الحبيب صلى الله عليه وسلم وهو يودعها مهاجرا وبرفقته صاحبه الصديق رضي الله عنه:
(والله إني لأخرج منك، وإني لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى الله وأكرمها على الله تعالى، ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك).
فإذا بجبريل عليه السلام ينزل عليه يجبر لخاطره الشريف بآية كريمة من الله الجبار:
{إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ مَن جَاء بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ }القصص85.
إنه وعد إلهي بالعودة إليها منصورا!
وهناك العديد من الآيات الكريمة ورد فيها جبر خاطر نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وكذلك عدد من رسله وانبيائه عليهم السلام، ولعظم أمر تطييب النفوس وجبر الخواطر فقد عاتب الله نبينا صلى الله عليه وسلم لكَنه أعرض عن ابن أم مكتوم الأعمى عندما جاءه سائلا مستفسرا، ولم يشفع للحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم انشغاله بدعوة بعض صناديد قريش، فأعرض عنه لينزل الله: {عَبَسَ وَتَوَلَّى}!.
وكم كان لهذه الآية من تأثير مفرح على قلب ابن أم مكتوم وكذلك أهل الصفة، فقد اعتبروها منصفة لهم مقابل أكابر قريش من أهل الجاه والمال!.
ومن تطييب النفوس وجبر الخواطر حسن التعامل مع الفقراء والمساكين والسائلين، فقد أمرنا الله بذلك وقال جل في علاه:
{فأما اليتيم فلاتقهر ، وأما السائل فلاتنهر}.
وكم في زماننا هذا من أيتام وفقراء وأهل مسألة، وتطييب الخاطر لا يحتاج إلى جهد ورهق كثير، إذ كلمة قد تكفي، وكذلك حسن السماع للناس عندما يحكي أحدهم عن هَمّ يكتنفه، ولإن كان في المقدور السعي معه في حاجته فإن الأجر في ذلك عظيم، إذ يجعل الفاعل في ظل الله يوم لاظل إلا ظله، وقد تكفي الابتسامة في وجوه الناس، فإنها صدقة كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم، فهي تدخل السرور على نفس تكالبت عليها الهموم.
ولعلي أختم بقصة حدثت من معلم للغة العربية عندما كنت تلميذا في المرحلة الابتدائية، كان معنا زميل كثير شرود الذهن، ولقد كان كثير الرسوب، جاءنا هذا الاستاذ رحمه الله معلما جديدا في المدرسة، وجعل يسألنا فرادى ليتبين مستوى كل تلميذ، وجاء الدور على زميلنا بابكر، فطلب منه تسميع قصيدة إبراهيم طوقان:
بيض الحمائم حسبهن
أني أُردِّدُ سجعهنّهْ
فوقف زميلنا وابتدر القصيدة دون خطأ، لكنه فاجأنا بخلطه للقصيدة مع آيات سورة النور قائلا:
(ولايبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن…)، فإذا بنا جميعا نقهقه ضاحكين، وشرع بابكر يبكي.
ما كان من هذا المعلم القدير إلا أن صاح فينا بأعلى صوت وأمرنا بالهدوء، ثم طلب من زميلنا الحضور إلى الواجهة، ثم ربت على رأسه وسأله:
الآيات التي قرأتها الآن من أي سورة هي؟ فقال انها من سورة النور، وأبان بأنه يحفظها كاملة منذ مرحلة (الخلوة)، فتوجه الأستاذ إلينا وسأل هل منكم من يحفظ هذه السورة كاملة؟ فأجبنا جميعا بالنفي، فقال لنا وهو يضع يده على كتف زميلنا:
زميلكم هذا أفضل منكم جميعا، فهو يحفظ سورة النور كاملة وهو في هذه المرحلة، ومن يحفظ القرآن يبارك الله فيه، وإن شاء الله سيكون له شأن في مستقبله.
وبالفعل فقد اختلف مستوى بابكر منذ ذلك اليوم، وحرص استاذ بابكر بأن يأتي به إلى مقدمة الفصل (حيث يُجْلَسُ عادة الشطار) ، وشرع بابكر يرفع يده ويشارك الأساتذة في الإجابة على الأسئلة خلال كل الحصص الأخرى.
بابكر الآن يقيم في أمريكا بعد أن درس المحاسبة وتخرج في جامعة الخرطوم، وهو ناجح في حياته.
وقد اتصل بي قبل سنوات من مكة المكرمة وقال لي بأنه جاء لتأدية فريضة الحج واهدائها لروح الاستاذ بابكر بعد أن علم بأنه لم يستطع الحج قبل وفاته!.
إنه نتاج تطييب النفوس وجبر الخواطر ياأحباب.