سوداني نت:
سوداني نت:
كم أقف بين يدي هجرة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وما اكتنفتها من أحداث؛ وأجد لها وصل وثيق بالشام وأهله الميامين، وفي الخاطر آية كريمة لها من المعاني والمالات الكثير المثير!…
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
{وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا} 100 النساء
قد يتساءل القارئ ويقول:
ماهو الرابط بين هجرة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ومراغم أهلنا السوريين اليوم؟!
الإجابة هي:
ماكانت هجرة نبينا صلى الله عليه وسلم قصة تحكى، ولا كانت تأريخاً يؤرخ به فقط، إنما أقدار للّه جعل مبتدرها في مكة المكرمة ومنتهاها في المدينة المنورة؛ وصلا بمسار الحياة من بعد الفتح لهجرات أخرى تحمل من المضامين الكثير، عمرانا للأرض، وإراءة لآيات الله ودينه الذي ارتضاه لنا.
تذكرت آية المراغم هذه يوم رأيت صورة جثمان الطفل السوري الكردي الذي ألقت بجثمانه البرئ أمواج البحر المتوسط على شواطئ تركيا، وقد غرق ضمن مهاجرين كانت وجهتهم الشواطئ اليونانية.
حاش لله أن يكون ظلاما للعبيد، فهو جل في علاه لأرأف بنا من الأم بوليدها، وهو كذلك أقرب لنا من حبل الوريد!
إنما هي أقدار الله، وهي حِكَمَهُ التي تعجز عقولنا القاصرة المحدودة عن الإحاطة بها؛ وإن بلغت البشرية مابلغت من أسباب العلم ومراق المعرفة والتطور المادي…
وتظل الهجرة الشريفة، وهذه الآية الكريمة تلوحان لي وتسفران عن محيّاَ وجبين كلما قرأت أو استمعت خبرا يحكي عن نزوحٍ لمسلمين هنا أوهناك، لجوءا وسوحا في أرض الله، واللجوء والسوح في مبتدئه ومنتهاه ليس سوى هجرة وان اختلفت التفاصيل وتغير الزمان والمكان، وتباينت الشعوب ووجوه بني آدم…
وتلك أمنا بنت الصديق عائشة تروي عن ابن عباس رضوان الله عليهم أجمعين بأن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم قال: لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا.
ذاك بالطبع يعني أن لا هجرة (من مكة) من بعد فتحها، وليس المعنى نفي الهجرة بالكلية، فالله سبحانه قد جعل مكة دار إسلام بعد فتحها، ولم تبق هناك حاجة إلى الهجرة منها.
وقد ورد في حديث آخر صحيح: (لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبةُ حتى تطلع الشمسُ من مغربها)، وفي ذلك قال الله جل في علاه: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا * إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا}. النساء.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية:
إن الآية تدل على وجوب الهجرة إن خشي المسلم على دينه ونفسه.
ويقول ربنا جل في علاه:
{يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإيَّايَ فَاعْبُدُونِ} العنكبوت 56.
وهذه آية كريمة أخرى تشي بالمآلات الحسنة التي كتبها الله للمهاجر:
{وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} النحل 41.
لعمري كلما تلوت الآية الأخيرة؛ تلوح لي وجوه وأسماء لعظماء كُثُر أسهموا إيجابا في حراك هذه البشرية، بل لقد أسهم بعضهم في تغيير مسار التأريخ الإنساني بعد هاجروا في أرض الله واستقروا في بلاد ليس لهم وصل بأهلها جينيا!…
وهؤلاء ما كان لهم أن يفعلوا ذلك إن لم يهاجروا إلى مراغم أخرى، يتخذونها وطناً وملاذا دون الذي ولدوا ونشأوا فيه…
لذلك فإن أمر الهجرة عندي لا أجده يرتهن بتعريفٍ للهجرة المنتهية عند فتح مكة، إنما أراها هجرةُ الدَّفعِ بالناس بعضُهُم ببعض، فهذا الدين الخاتم ماكان له أن يُقْعِي بأهله في مكان بعينه ليذوي، إنها أقدار الله ومراداته تجعل من عباده كما بذور أشجار الصنوبر تتناثر في الهواء لتَقِرَ في أرض جديدة لتنمو فيها نبتا يانعا، وشجرا أصله ثابت في الأرض وفرعه في السماء…
ما كان مني إلا نظرت إلى حالنا اليوم، فوجدت الخصوبة تكتنف ارحام نسائنا، وإذا بالغرب (يضمُرُ) ويرذل عاما إثر عام، وإذا ب(ظاهر) الأمر في ديار المسلمين مِحَنٌ تترى وحروب، وقحت وجفاف، وفي ارجاء أخرى فساد يضرب باطنابه ليذهب بمقدرات دول وشعوب، وإذا بمراكب الموت تنقل شباب المسلمين إلى الضفة الأخرى من المتوسط، وإذا بالبشارات تأتي من هناك، فقد حكى لي صديق يعيش هناك بأن جارته الأوربية العجوز جاءتهم يوما لتعلن إسلامها، فسألها عن السبب؛ قالت بأنها رأت وتبينت أثر الدين الجديد في بناتها الثلاث اللائي خرجن من البيت منذ سنوات وكُنَّ مدمنات للخمر والمخدرات، فبقيت الأم وحيدة إلا من كلب يقاسمها السكني، وإذا بها تفاجأ بهن يعدن – بعد سنوات- وقد إلتقين في الجامعة بزملاء دراسة من المهاجرين أعجبن بسلوكهم وأخلاقهم فأسلمن على أيديهم!، وإذا بهن يعاملنها بأسلوب جديد، قلن لها إنها أخلاقيات الدين الجديد!.
نبينا صلى الله عليه وسلم وصحبه لم يهاجروا فرارا بحياتهم، إنما فرارا برسالة وضيئة حري بها أن تبلغ مداها، وعاد نبيتا إلى مكة يقود جيش الخلاص، وكأني ببصره الشريف يوم الفتح ينفذ إلى الأفق البعيد ونادى شعوب الأرض قاطبة بأن نور الإسلام سيأتيكم يوما ليخرجكم من الظلمات، والظلمة تكون أكثر اعتاما كلما ازداد مظهر المدينة وتقاصرت عنها أشعة شمس الوصل بالله، حينها تزداد وتيرة الانتحار في أعلى دول أوربا دخلا وأفضلها نظام حياة مادي…
وقف الحبيب صلى الله عليه وسلم على الْحَزْوَرَةِ وبجواره رفيق هجرته الصديق رضي الله عنه وقال وهو يرنو الى أرض مكة:
والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني عنك ما خرجت منك…
لعمري ذاك – ما احسبه- قاله كُثُرٌ ممن يمموا صوب مراكب الموت في المتوسط، فداك نفسي وأبي وأمي يارسول الله، فتلك السيوف الأربعون، ودونها سواعد وعقولٌ وعنفوان؛ ما كان لنا أن نقرأها كغيرها من القصص والحكايات، فالخارج من بين نصالها من قبل أن يكون المعصوم؛ لهو القدوة والمتبوع صلوات الله وسلامه عليه،وستبقى {وجعلنا من بين أيديهم سدا ومن خلفهم سدا فأغشيناهم فهم لايبصرون} عاصمة، و قاصمة، و منجية لكل من أخبت إليك، وستظل موئلا وزلفى لكل السالكين لذات طريق الهجرة، يفعلون ذلك والوجدان منهم (مُسَتَّفٌ) بهذا الدين الخاتم، يفرون به إلى الله كانبثاث بذور الصنوبر يحملها الهواء الى أرض جديدة وعوالم للحياة رحيبة…
وهذا الطريق وان بدا ظاهره مَهْرَباً؛ الاّ إنه في اصله وقراره مبتدرٌ ومنتهى، إنه طريق الاخبات لله الأحد الفرد الصمد، الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفؤا أحد…
ويخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين السيوف الأربعين ليواصل الصدع بمنهج الله، وإذا بسراقة بن مالك ينطلق في أثره، ويوشك فرسُ سراقة اللحاق برسول الله وصاحبه الأمين، ولكن يبقى رسول الله ثابتا وراسخا كالطود لا يهتز، لِمَ كل ذلك؟!
أنه الاخبات لله ياأحباب!
ويقترب سراقة بفرسه وقد منّى النفس بحُمُرِ النعم التي وعده أياها قادة قريش، ويستبد به سُكْر الفرح إذ يوشك على نيل مبتغاه، ولايبقى بينه وبين مراده إلا مسافة قصييييرة لاتزيد عن خطوات معدودات يخطوها حصانه، فيهيّئ نفسه للمغنم، ويُخرجُ سيفه من غمده، وتفترُّ شفتاهُ عن بسمة الانتصار والخيال منه مشغولٌ باستعراض صفوف النوق، ومرأى رقص القيان فرحا بالانجاز الكبير الوشيك تلوح له في الآفاق، وكل حسابات الدنيا تقول بأنه قاب قوسين أو أدنى لإدراك مبتغاه وي مراده، ولكن:
فات عليه -وهو المشرك – أن المشيئة لله الواحد الأحد لا لسواه…
فات عليه – وهو الغافل أن الله قد أبطل مفعول الاحراق من النار على نبي الله ابراهيم عليه السلام ليواصل نشر دين التوحيد في أرض الله…
فات عليه – وهو المنكر للغيب- أن الله جل في علاه أنجى نبيه موسى عليه السلام عندما طمأن قومه قائلا {كلا إن ربي سيهدين}، فضرب البحر بعصاه لينفلق وينجلي طريقٌ يَبَسٌ لينجيهم الله من فرعون وجيشه لينشروا دين الله.. .
إنها مشيئة الله لنصرة الخير على الشر من الأزل، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فإذا بقساوة الصخر تستحيل لِينا وعجينة، وإذا بتراب الأرض يصبح طينا لازبا فتصيخ فيه سيقان حصان سراقة ويتوقف عن الانطلاق والسير، وأُخِذَ سراقة من حيث لم يحتسب، وإذا به يتبين بأن هناك قوة عظيمة فوق قوته، وارادة عظمى فوق ارادته، ومشيئة لمن خلق السماوات والأرض فوق مشيئته ومشيئة قومه من صناديد قريش…
وإذا بالحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم تكسو وجهه الشريف ابتسامة وضيئة فينادي ويقول:
ياسراقة لا تبتئس، ستلبس سواريْ كسرى بإذن الله، فيشهد سراقة بأن لا أله الاّ الله وأن محمدا رسول الله…
صلى عليك الله يانبي الهدى ماهبت النسائم
وماناحت على الأيك الحمائم…
وينطلق الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه ومعه رفيقه الصدِّيق أبو بكر رضي الله عنه إلى مدينة الخير ليغرس بذرة الدولة الوليدة، وإذا بقباء أول مسجد يقام، ومن مدينة الخير تنطلق جحافل الصحابة رضوان الله عليهم ينشرون دين الله في الآفاق…
وهنا يتبادر الى الذهن سؤال:
أما كان لله أن يقيم هذه الدولة في أرض مكة المكرمة، حيث مقر القبلة الجديدة؟!
نعم بالتأكيد ولاجدال في ذلك، فالله جل في علاه إن أراد للشيئ أن يكون فإنما يقول له كن فيكون، لكنه سمت الهجرة، الهجرة التي يريد لها ربنا أن تنتظم الكون؛ بشرا وأفلاكاً وأنجماً وشموسا…
فهذا الكون -بكل مافيه- مافتئ يسير ويتمدد في هذا الفراغ اللانهائي:
﴿وَالسَّمَاء بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ﴾47الذاريات
والإيساع ماهو الاّ هجرة، فالسكون ليس بأصل في الكون، حتى الذرة تدور الإليكترونات حول نواتها!…
وهاهي الطيور تهاجر وتجتاز الفيافي والقارات خلال رحلات معلومة المآلات والمسارات…
والتأريخ بكل تقاويمه المعلومة لا تكاد تجد فيها ما يخلو من فارق يوم أو أيام خلال العام؛ ولكن إذا بالفصول صيفها وشتاؤها وخريفها وربيعها تهاجر على جسر الأشهر والسنوات فيها ولا تكاد تثبت في حيز زمني بعينه على مر السنوات والعقود!…
لذلك فإن التقوقع والانزواء لا يضيف إيجابا، ولايولّد حضارة بمآلات موجبة كالتي تنشأ نتاج التداخل والتصاهر ودفع الله الناس بعضهم ببعض هجرة وسوحا في أرض الله…
والدراسات العلمية أكدت بأن معدل الذكاء البشري يذوي كلما انغلق الناس على ذواتهم وقصر فيهم ظل التداخل والتصاهر، بينما يزداد معدله في الشعوب ذات الإثنيات المختلفة المتصاهرة!…
وما كان من نبي الاّ وكانت الهجرة حراكاً اكتنف حياته، بل إني لأقول بأن هبوط آدم وحواء عليهما السلام إلى الأرض لم يكن سوى هجرة وإن اختلفت أسبابها ومآلاتها!…
وبذلك فان الله اللطيف بعباده يكتب الهجرة للناس ويسببها جل في علاه بأسباب عديدة، وان كنا كثيرا ما نرى في مظهر ذلك السلب والسوء ومايبدو لنا بأنه ظلم لأناس، لكن عندما نتبين المآلات نستوثق أن الله رؤوف بنا غاية الرأفة وأنه ليس بظلام للعبيد…
تدفع الجراحات والأرواح المزهقة – نتاج القصف بالقنابل والمدافع انتهاء ببراميل البارود، وكذلك بسبب الزلازل والبراكين والتسونامي – الناس إلاّ الهجرة إلى (مراغم) أخرى، ينبثّوا فيعا لينبتوا من جديد كما بذور الصنوبر…
وإنها لعمري لنَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ لدِينِهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ، وإن اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرون.
[email protected]