سوداني نت:
-1-
قبل أكثر من عام من سقوط نظام الإنقاذ، عقب ميزانية الركابي الشهيرة، كانت الأزمات الاقتصادية تُحيط بالمواطن من كل جانب.
في كُلِّ يومٍ تنخفض قيمة الجنيه في الجيوب، ويصعد الدولار على الجراح.
وسؤالُ الطيب صالح يرنُّ في الأذان:
(هل أسعار الدولار ما تزال في صعودٍ وأقدار الناس في هبوط؟).
الأسواقُ تشتعلُ مع تصاعد الأسعار، الدخولُ للمحالِّ التجارية بغرض الشراء، يزيدُ من ارتفاع الضغط، ويُخفِّض نسبة السكر في الدم، كثيرٌ من المال وقليلٌ من الحاجيات!
-2-
صفوفُ الوقود عادت مرَّةً أُخرى، والخبزُ يختفي من الأفران، حتى يُصبح الحصول عليه عصيَّ المنال، كنا في كُلِّ مرَّة نجد أنفسنا موعودين بزيادة سعره وتقليل وزنه.
الكهرباءُ غير مُستقرَّة، أزماتٌ تتبعها أزمات.
كتبت وقتها في هذه المساحة:
إذا جاءت الساعةُ الخامسةُ والعشرون، معادلة الصفر وأوان الأزفة.
ساعة اليأس وفقدان الأمل وانغلاق الأفق، حين يصبحُ البقاء في المنازل أصعبَ من الخروج إلى الشارع لمواجهة كل الاحتمالات، حينها سيصبح الموتُ والحياةُ على حد سواء!
وجاءت الساعة الخامسة والعشرون في الحادي عشر من أبريل!
-3-
في آخر لقاءٍ للرئيس السابق عمر البشير مع قيادات الإعلام المحلي بمقر إقامته ببيت الضيافة والاحتجاجاتُ على أشدها والدماءُ ساخنة في الأرض والدموعُ على المآقي، أُتيحت لي وبعض الزملاء فرصة الحديث.
في ذلك اللقاء كان يبدو على البشير الإحباط والتعب، حتى ضحكاتِه كانت تخرج فاترةً وحزينة، تنتهي بإغماض عينيه ومدِّ شفته السفلى إلى الأمام.
رغم الأزمات وتواصل الاحتجاجات وانغلاق الأفق، لم يفقدِ البشير في ذلك اللقاء ثباته أثناء الحديث، وحضورُه الذهني كان على مستوى التساؤلات.
جاءت مجمل إفادات الكتاب والصحفيين ناقدة لتعامل الحكومة مع الاحتجاجات.
نقد كثيف وُجِّه للعنف المفرط الذي مارسته الأجهزة الأمنية مع المتظاهرين العزُّل.
– 4 –
بدا البشير منذ فترة طويلة يعاني عزلةً معلوماتية وشعورية، تفصل بينه وحالة الغضب العارمة بالشارع العريض.
ربما غالبُ من حوله من أجهزة وأفراد حرصوا على عدم نقل الصورة الكاملة لما يحدث في الشارع من تفاصيل التداعي والانهيار التي تُنذر باقتراب نهاية الأجل السياسي.
بعضُ أولئك كانوا من باب الإشفاق لا يريدون الإثقال عليه نفسياً بمضاعفة الهموم، والبعضُ الآخر كانوا من أهل النفاق يحدثونه بما يطيبُ له السماع.
كتبتُ وقتها على صفحتي بالفيسبوك:
(تسقط الأنظمةُ بفارق التوقيت.. حينما تفقدُ حساسية اتخاذ القرار الصحيح في الوقت المناسب، ما عليك تقديمُه الآن قد لا يُقبل منك غداً).
– 5 –
مجموعُ السياسات الخاطئة والقرارات الطائشة والعجز عن إيجاد الحلول والتصالح مع الفساد وحماية بعض المفسدين.
بل استخدام الحرب باسم الفساد تكتيكياً لترميم الثقة وتحقيق مكاسب سياسية ولإرهاب أعداء محتملين وحقيقيين كل ذلك قرَّب البشير من حافة الهاوية.
في الفترة الأخيرة، كانت جهاتٌ عديدة داخل السلطة الحاكمة، عبر أخطائها الفادحة وتصريحاتها المستفزة، تعمل بجهلٍ وربما بكيدٍ، لتوفير المواد الخام للثورة على النظام.
– 6 –
بلغت ذروةُ الغضب الشعبي الساعة الخامسة والعشرين، حينما قبِل البشير نصيحةً فاسدة من مقربين، ربما وافقت رغبةً خجولة لديه، بتعديل الدستور والترشح في انتخابات 2020م .
في هذا الميقات أزفت أزفةُ الرحيل: فما كان للشعب أن يحتمل معاناة الحاضر بكل قسوتها، ويسمح للبشير بمصادرة المستقبل!
– 7 –
قلتُ للرئيس البشير في ذلك اللقاء الأخير:
ما يحدث الآن ثورةٌ مُجتمعية، فالمشروعُ الذي كنتم تدافعون عنه في توريت وكبويتا، أنتم الآن في حاجة للدفاع عنه داخل منازلكم!
وفي ذلك إشارةٌ لمُشاركة عدد كبير من أبناء وبنات قيادات الإسلاميين في الاحتجاجات.
ونبَّهته لخطورة الخطاب الاستعلائي لقيادات حزبه حيث سيُحوِّل المُناصرين إلى مُحايدين، والمُحايدين إلى مُعارضين، والمُعارضين إلى أعداء.
وختمتُ حديثي له بأن يُصبح قائداً للتغيير بدل أن يصبحَ هدفاً له!
– 8 –
وربما لو أخذ البشيرُ بتلك النصيحة في وقتها، وقاد التغيير مُمتنعاً عن الترشح في الانتخابات، ومُفسحاً الطريق لغيره، بعد فترة انتقالية مُتَّفقٍ عليها مع القوى السياسية المُعارضة، لضَمِن للبلاد انتقالاً سهلاً وسلساً غير ذي عوج.
لو فعل ذلك، لحفظ دماءَ الشباب وأمنَ البلاد ومُستقبلَ الأجيال وفرصَ حزبه في البقاء، ولفَتَحَ الطريق أمام تداولٍ سلمي يُرسِّخ قيم البناء الديمقراطي.
-أخيرا-
اختار البشيرُ حين غفلةٍ من قوانين الثورات وعِبَر سابقيه، الطريقَ الخطأ.
مضى مُغمضَ العينين ومُغلقَ الأذنين، واحتفظ لنفسه إلى اللحظات الأخيرة بهامشِ المُناورة على شفا جُرفٍ هارٍ، فكان السقوطُ الداوي المُذل.